تقف أمام منزل قروي بسيط لتقرأ نقشاً محفوراً على مدخله “هذا من فضل ربي، شيد هذا البناء في عهد صاحبه بالتاريخ المدون نقشاً”.
وقد يكون هذا النقش حديثاً وصاحب المنزل ما زال يتنقل بين أركانه، فيما تطالعنا الكثير من نقوش بأحرف عربية أو يونانية أو رومانية وربما مسمارية تتحدث عن مالكين رحلوا وأبطال انتصروا وحوادث مرت أو عن قصائد وروايات ومقاطع موسيقية كانت تتردد في أرجاء أزمان سابقة.
نقف أمام حجارة متهدمة، تشهد على ضخامة أبنية كانت جزءاً منها رتع بها أقوام قضوا قبل آلاف السنين وعمروا بيوتاً وأشادوا قصوراً ومنازل ومعابد، كانت تعج بالقائمين وتضج بأصواتهم وتنبض بحياة نتخيلها عامرة بالعطاء، فخلف كل حجز قاس نجد حكاية تروي تاريخاً لحضارة سادت زمناً، لكنها بادت لاحقاً لتسكن بين صفحات كتب التاريخ وتتردد على ألسنة المهتمين من الرواة والمحدثين وما يضيفون عليها من رؤاهم ويسبغون عليها من أنفسهم.
أسير في طرقات بصرى القديمة أرافق من مشوا عليها وأسمع وقع أقدامهم ووقع حوافر خيولهم فوق الأحجار المرصوفة بدقة عالية، وقد تداخلت فيما بينها وتشابكت أطرافها لتصعب على الخراب والتفكك، وأحار في التفريق بين أصوات الباعة ومحالهم وبين العابرين في تلك الأسواق، فهنا يتوقف شار ينتظر فراغ نسوة تجمعن قبله طال بهن الوقت دون أن يصلن إلى اتفاق لاختيار البضائع المناسبة لتعلو أصوات ضحكاتهن، فيتركن البائع في دهشة وتذمر يعيد ترتيب بضائعه المبعثرة فوق رفوف البازلت القاسية، ويمر أمام ذلك المحل فارس يعتلي صهوة جواده، مزهواً بذاته وقد امتشق سيفاً يشهد له ببطولات كثيرة في ساحات الوغى، يلقي السلام على أحبائه دون أن يتوقف معهم، فيما يقف النحات الهرم ينقش فوق حجر قاس أملس حروفاً تتحدث عن تلك الوقائع السعيدة.
تنقلني الخطا إلى الأوابد الضخمة التي عجز الدهر أن يهدمها بعدما فعل فيها الكثير ليناجي دير الراهب بحيرا جامع مبرك الناقة يستشعر خطوات ذلك الطفل الموعود بالنبوة بعدما طال انتظار الراهب المتنبئ للوقوف أمام آخر الأنبياء ويعيش لذة رؤيته والنظر إلى وجهه الصبوح فيبذل الغالي والنفيس للحفاظ عليه وحمايته من أدنى أذى، فتتردد تلك الحكاية صورة حاضرة تنعش النفس وترتقي بالروح إلى عوالم الرضا والسعادة .
تلك صورة معاشة بشكل متكرر لا تتوقف عن النبض الحي تسعد النفس مع كل تكرار جديد، فيرتفع المكان بحجارته الصلدة الناعمة يتحدث ويحكي روايات حية يستلهم ماضيها بكثير من الحنو والمحبة ويستنطق الراحلين ويستعيد أحاديثهم، لكنه يلبسها من أثوابه الخاصة.
