هفاف ميهوب
«كلّ فعل كتابة يخاطب شخصاً ما، يخاطب غزّة نفسها، أو المستقبل والأطفال الذين يأملون النجاة.. كلّ فعل كتابة، هو أيضاً نداءٌ يسألنا: أين نحن ـ القرّاء الأحياء، كي نقرأ هذه الكلمات؟، فهل سمعنا الأصوات، وهل قاومنا الإبادة الجماعيّة؟.لقد ناشدتْ كلّ كلمة من هذه الكلمات، بأن تُقرأ وتُسمع، من تلقاءِ نفسها أو مُترجمة، حتى تجعل من عدم معرفة ما عاناه الفلسطينيون، تحت الهجوم الوحشي الذي شنّه القتلة الاسرائيليون، أمراً مستحيلاً.. هذه الكلمات مكتوبة للعالم، تناشدنا بأن نرى ونسمع ونتخيّل وننفعل..». بهذه الكلمات، قدّمت الفيلسوفة والمنظّرة الأميركية «جوديث بتلر» لـ «كتاب الوصايا». الكتاب الذي يحتوي على شهاداتٍ مروّعة لمبدعاتٍ ومبدعين من غزّة، عاشوا أحداثاً مأساوية في مواجهِة الموت الذي أودى بحياةِ من يحبونهم، أو يعرفونهم، وكان كلّ منهم يترقّب في كلّ لحظة، أن يلحق بهم، إنه الكتاب الصادر حديثاً عن «دار مرفأ للنشر والتوزيع في بيروت»، وهو فكرة وتحرير الشاعرة والمترجمة الفلسطينية «ريم غنايم»، وتقديم «جوديث بتلر» والكاتب الأرجنتيني «ألبيرتو مانغويل» الذي نختار أيضاً، ومما قدّم به للكتابِ تحت عنوان «بيان ضدّ الموت»:»كتابُ الوصايا مختاراتٌ لأصواتٍ قادمة من اليباب.. أصواتُ سكّان غزّة اليوم، بعضهم رحل عن العالم بعد تدوين هذه الكلمات، وآخرون أسكتهم اليأس، المأساة الكبرى التي يعيشها الشعب الفلسطيني، لا يمكن وصفها بالكلمات، وحدهم الضحايا يمتلكون القدرة على وصف الظروفِ التي يعيشونها، لمن يشهدون هذه المأساة، لكن، حتى بلسانِ المتألّمين تخفق اللغة، لأنها في جوهرها، محاولتنا العقيمة لإضفاءِ معنى على العالم، لرؤية عالمنا المُربك هذا، من خلال المنطق، لكنّ، في الكوارثِ كتلك الحاصلة في غزّة، تقع الأحداث المأساوية خارج أيّ سببٍ منطقيّ يمكن تصوّره..».
بعد هاتين المقدمتين، يقدّم الكتاب شهادة للأديبِ والقاص «يسري الغول» الذي يقول عن وصيّته كرجلٍ حالم:»لأن اليد من لحمٍ ودم، أوصي المجانين أمثالي، الغارقين في الخيال، أن يتحوّل بعضهم إلى زمّارٍ يأخذ الأطفال إلى مغارةٍ بعيدة، يعزف لهم مقطوعة موسيقية.. مغارة لامكان فيها للموت، وأن يلبس البقية قناع «زوربا»، ليسرقوا الطعام والألعاب من بيوت الأغنياء..».وصيّة أخرى لـ «هناء أحمد».
الكاتبة الغزّاوية التي كتبت بعد أن رأت آلاف الأشخاص يُقتلون.. أقارب وأصدقاء وجيران وزملاء عمل، وغيرهم ممن رحلوا إلى الغيابِ وبقيت حكاياتهم ناقصة.. كتبت وهي تخشى اللحاق بهم، وتحت عنوان «أريد أن أنجو»:»الموتُ يلحق بي في كلّ مكان.. يحرّك سواكني ويذكّرني بضرورة أن أظلّ موجودة، لأن هناك أحلام لم أحقّقها بعد.. شوارعٌ لم أمش بها، قصائد أصدقاءٍ أريد قراءتها، مجموعة قصصية قيد الكتابة، وأطفال غزّة الذين ينتظرون عودتي للعمل، لنضحك ضحكات عملاقة وطفولية، ونكتب أحلامنا على بالوناتٍ ملوّنة، ونرسلها في الفضاء..».
تتوالى وصايا مبدعي غزّة، وتتوالى أجواءُ الرعب والخوف والترقّب والموت، والمفرداتُ التي لا بدّ أن تؤلم قارئها، مثلما آلمت الأديب والشاعر «سعيد عبد العزيز أبو عزة» الذي وصّى:»أوصي أن تُجمع دموع بناتي، إذا لم يمُتن على صدري، وبقين على قيد الحياة، في قنينة عطرٍ فارغة، وتُدفنُ في قبري.. أوصي بأن أُدفن في قبرِ أمي لأشعر بالأمان، أو بجوارِ أيّ شهيدةٍ أم..».الوصايا الأوجع للقارئ، والتي تستحقّ أن تُخلد في كلّ العيون النازفة نزيف الإنسانية، هي وصايا المبدعين والمبدعات الذين رحلوا بعد كتابتها، ومنهم الكاتب الشاب «نور الدين حجاج» الذي وصّى قبل ارتقائه، إثر ضربةٍ جويّة اسرائيلية:»أنا لستُ رقماً، وأرفض أن يكون خبر موتي عابراً.. أحد أحلامي أن تجوب كتبي وكتاباتي العالم، وأن يصير لقلمي أجنحة، لا توقفها جوازات سفر غير مختومة، أو فيزٍ مرفوضة، حلمي الأكبر أن يعمّ السلام بلادي، وأن تُشرق ضحكات الأطفال قبل الشمس.. أن نزرع وردة في كلّ مكان سقطت فيه قنبلة، ونرسم حريّتنا على كلّ جدارٍ تهدّم، أن تتركنا الحرب وشأننا، لنعيش حياتنا ولو لمرّة واحدة..»
