الثورة _ هفاف ميهوب:
تكتبُ الحياة بمفرداتٍ، تحيلُ الحزن الذي فيها، إلى نسماتٍ تلفحُ القارئ فيستعذب لطافتها.. تكتبُ وترسمُ.. قصائدها لوحة، ولوحتها صرخة.. نتمعّن فيهما، فنشعرهما يترجّيان الموتِ أن يتوقف، كي يعود الجمال والسلام والمعنى للحياة.إنها الشاعرة والرسامة «صفاء علي محمد»، التي حاورناها وسألناها:
ـ شاعرةُ القصيدةِ المتألّمة. هذا ما نعرفه عنكِ، فمن أنتِ، وهلّا عرّفتِنا بكِ أكثر؟.
ـ ـ أنا لستُ مجازاً، أنا دمعةٌ ناطقة.. الفقدُ صمتٌ ينزفني بكلِّ اللغات، وأنا امرأةٌ لا أكثر ولا أقل.. لا أجيدُ الشعر، فقط أطهو مفرداتي بالصّبر، قبل أن يقدّدها الملح، فلا تعودُ تقوى على مضغها بنات أفكاري اليتامى.أنا ابنةُ تلك الدّالية التي حملتْ عناقيدي الأربعة، حينَ هويتُ أوّلَ مرّة، وتلكَ العصفورةُ التي حطّت من عالمٍ آخرَ على رأسي..أنا رُمانةُ جدّي التي كرّرَ عدّها، خوفاً من أنْ يسرقها في غفلةٍ نعاسُ الذاكرة. أنا سبعةُ الحظّ في تفاؤلِ أبي، فوزُهُ في التقاطِ الاسمِ، كي ننجو معاً من نقيضيَ الكَدر..أنا من هناك/ من وطنِ الريحِ التي لا تخون مواويلها/ أحيا بموتي.. أنبضك/ أسندُ على جرحِ القصبِ دماي/ أنا الناي/ والريحُ شفتي النازفة/ قلقي.. فرحي إيقاعٌ حرٌّ/ رقصاتُ أنثى على جفنِ العاصفة..
ـ تقولين: «حينَ ينمو الوقتُ كشجرة، أفكرُ أن أنضجَ قليلاً».. أتحتاجين نضجاً هو في كلّ قصائدك؟.
ـ ـ النضجُ هو إعادة اللون إلى الأشياءِ، بعد أن فقدت دهشتها، كيلا يمرّ بي الوقت ويبقى فارغاً، دون أن يصرفني من بنكِ الطفولة، فالسعادة لا تمرُّ بسنِّ اليأس. بالأمس زرعت غصناً أخضر رغم تقلبات الصيف، اليوم أزهر عمري شجرة، وعي الفصولِ لسكراتها، لا يَخمد في داخلي ثوران النسغ.أحتاج النضج كي تستسيغ الأيام طعمي الذي فقدته، بمرورِ عواصفِ المحن لطالما، كنتُ أشتكي من الحموضةِ الزائدة، كلوزةٍ بلديةٍ رشّوا على جلدها ملحَ الحياة، وتقاسموا أوجاعها مع متعةِ ارتشافِ الكأس، وكسفرجلة تغوي أنوثتها وتكررُ الغصّة، لتردّ عنها سنَّ اليأس.
ـ تقولين أيضاً: «النصُّ موتي، وهذا الحزنُ كفن لِمَ كلّ هذا الحزن والألم؟.
ـ ـ لأن الحزن قامتي الطّويلة انحناءة، الصفصاف يميلُ على ضفتي لأغتسل بدمعةِ مواويله. أسمو بالحزن كلما انحدرتُ بلغته السائلة شلال حياة.. لم أعدْ أرى الأشياءَ السّعيدة، فقلبي أصابهُ المدّ.. بعد حادثةٍ عظمى كالفقد، تستوطنك حالات تتقمّص فيها صدى الإحساس، فتعيش تردداته في حياة الآخرين، من جذبٍ للألم والخوف والعزلة والهلع من الخسارة.حين أصاب الموت عصفور قلبي، كان نائماً، ومن يومها توقفت جميع أحلامي عن الطيران.ما زالت تتملّكني تلك الابتسامة الباكية، كعاهةٍ مستدامة.. وحمةُ جداتي النساء اشتهين الفرح، فحبلن برغباتهن الدفينة، وأنجبنني على مقاسِ خيباتهن، حملاً كاذباً لأحلامٍ قضت، في طوفان الدمعِ الذي نزفتهُ الوسائد.ألبسوني حزناً فضفاضاً، وأسروني في صومعة الحكايا، جدلوا لي اسماً من نياتهن البريئة عن الخلاص.كلّ هذا المخاض ولم أُرزق بصرخة، ابتلعتني الكوابيس قبل أن تلامس ضفيرتي مطلع الحبّ بشمس.
ـ هل يدفعنا هذا لسؤالك، عمّا إذا كانت لغتكِ، هي من يبلسمُ جرحكِ وصمتكِ؟..
ـ ـ اللغة ضمادُ الصّمت الذي نزفني ليقولني دفقة واحدة. الحزنُ مبراةُ لغتي، والأوراق قلبٌ ثقبهُ الحنين.. هي رقصي على جمرِ الصمت، عارية إلا من حزني. الكتابة تبادل ثقلٍ، أحملها وتحملني حتى يستكين التعب.مُذ اكتفيت بقراءتي عن بعد، وأنا أتمدّد على صفحاتِ الغياب. بأنفاسي أقيسُ وجع المسافة. ألقط قمح الوقت وأطحنه. أعجنُ رؤاي أرغفة سحابٍ بماءِ الخرافة. أسكت جوع اليقين. أعدُّ رسائل للفراغ الذي لم يعد يشغلني، لكني مازلت أشغله بالجنون.
ـ تكتبين وترسمين. أين تجدين نفسك أكثر، في القصيدة أم اللوحة؟.
ـ ـ أكتبُ لأني أحتاج فراغاً يرثُ كلّ هذا الزحام، وأرسم لأني لا أحتمل جدران قلبي فارغة..عندما أكون أنا في اللوحة، يكون الضوء أوّل العابرين، ويكون الموتُ صدىً لآخر انكساراتي..في اللوحة مساحةٌ من الحلم، آوي إلى رئتيه حين يضيق الكلام بأنفاسِ غربته.. أعيش داخل اللون حريتي، هناك يمكنني أن أبكي دون أن يراني أحد.لستُ أكتبُ، كلُّ مافي الأمر أن لغتي بريّة، يصطادني المعنى كلّ مرّة بقصيدة.. أنا لا أرسمُ.. كلُّ مافي الأمرِ أنّي ألوّنُ صمتي، ولأني أحتاج لوناً يشربُ دمعَ الكلمات.
سؤالٌ أخير: ما مدى أحلام قصيدتك ولوحتكِ، في عالمٍ افتراضيّ يضجّ بالشعراء والفنانين ؟..
ـ ـ أحاول في هذا العالم، أن أنأى بذاتي عن الصخب. أكتب بفطرةِ الماءِ، وكلّما حبست نفسي أنسكبُ..يقول شوبنهاور:»المهارة أن تصيب هدفاً لا يمكن لأحدٍ أن يصيبه، والعبقرية أن تصيب هدفاً لا أحد يراه».مازلت أجرّبُ باللغة، وأخلق عالمي الخاص لأنجو.. الكتابة خلاصٌ فردي. اللغة نافذة أيضاً، أتمشى خارجها، كلّما احتجتُ أن أراني بعينِ عصفورة..!فطرةُ الروح التحليقُ عالياً، لولا الأحلام لاغتالنا الواقع.. أحتاج الكثير من أشرطةِ الكلام الملوّن، ومقصاً يقطعُ النهايات الحزينة، لأغلّف قلبي بقصيدة..حرّةٌ بما ملكتُ من فنونٍ، أرسم ما أشتهيه.. كلّ لوحةٍ أنثى، تمدّ ذراعيها لرقصة الحبّ.. طوبى للألوان تعلّمني، كيف أسرق الفرح..!