الشاعر جهاد الأحمدية: القصيدة طائر أسطوري جميل يتغذى من مفردات الواقع

الملحق الثقافي-رفاه الدروبي:                

الشعر كائنٌ غرائبيٌّ عظيم، لا يدركُ مكنوناتِ تضاريسِهِ إلا مَن يتحلَّى بالموهبةِ المشاكسة والإرادةِ الشُّجاعة، ولا ينال رضاه إلا مَن يتقنُ العزف على أوتارِ اللغةِ، والتحليق في فضاءاتِها الفسيحة. فالشاعر يولد وفي قلبه شعلة الإبداع، وفي مخيلته جوهرة الشاعرية المضيئة، بجمله المترابطة، وامتلاكه أدوات اللغة.
بالمفردات الأدبية الساحرة بدأ الشاعر جهاد أحمدية حواره مع “الثورة” عن بوادر الشِّعر لديه.

الشعر صديقي الصدوق

أحمدية ذكر أنَّه ولد شاعراً مع سبق الإصرار من ملائكة الشعر كي يكون صوتها الصدَّاح في سماوات الجمال لعلَّه يستطيعُ إلى طموحاتِها سبيلاً! فكان في البدايات  للمحيط الاجتماعي إلى جانب البيئة الطبيعية دورٌ فعَّالٌ في مسيرةِ حياته الشعرية لا سيَّما في مرحلة البدايات. فوالده كان قارئاً نهماً للشعر، ومتقناً لفنون كتابته، وكانت لديه محاولات جادَّة في كتابة الشعر الخليلي، نشر بعضاً منها في بعض الدوريات، ولا شكَّ أنَّ حبَّ الابن للشعر بدأ من تلك الطفولة المُتربِّية على سماع الشعر وإعراب المفردات والجمل، فتأصَّلت لديه اللغة العربية، وأتقن قواعدها بشكل جيد قبل أن يتعلَّمها في المدرسة، ثمَّ ساهم تفوّقه في الدراسة بمدرسة القرية الجبلية في لبنان وإتقانه للغة العربية في لفت انتباه أساتذته، فدعوه للمشاركة في نشاطاتها الثقافية، ومازال في بدايات المرحلة الابتدائية، لكنَّه لم يُفكِّر حينها في احتراف الشعر نتيجة تفوّقه في المواد العلمية المفترض أن تُوجِّهه إلى الاختصاصات العلمية فأبعدته عنها نيران الحرب الأهلية في لبنان، وكانت دراسة الأدب الإنكليزي في انتظاره وكان الشعر صديقه الصدوق.

تحلق في فضاء الروح

يرى أنَّ القصيدة طائرٌ أسطوريٌّ جميلٌ يتغذَّى من مفردات الواقع، ويطير بجناحين من لغة مبدعة وخيالٍ مشاغب. تُحلِّق القصيدةُ في فضاء الروح، وعيناها على جنة الحلم، تختار آفاقها بفطرة النبض، وترسم مساراتها بريشة البوح العفوي فتوائم ما بين السليقة الواعية والعفوية المدرَّبة، وتجدل ضفائرها ثلاثاً: بخصلة من طفولة المشاعر، وثانية من يفاعة النبض، وثالثة من صبابة الصبا والتوق للمعرفة، ثم تزيُّنها بخيط من أرجوان المعاناة والتجربة.
لكن قصيدة التفعيلة حظيت بحصة الأسد في تجربته الشعرية لأنَّها الابنة الطبيعية للقصيدة العمودية تحمل جيناتها وملامحها، وتتقن الرقص مثلها إلا أنَّها تحرَّرت من تماثل الشطرين والقافية والروي. ووجد نفسه مشدوداً إلى قصيدة التفعيلة معجباً برقصها الإيقاعي وتمايلها المتناسق مع نبض القلب، وبموسيقاها المنسجمة مع مقام الروح فدخل معابدها فمنحته روعة الإبداع المتجدِّد، ولم تحرمه من الطقوس المقدَّسة للقصيدة العمودية المتربِّي عليها، وتتلمذ على جماليات شعرائها المبدعين. فقصيدة التفعيلة الابنة البارَّة بأمها قصيدة الشطرين العصيَّة على الذوبان في بحار الماضي الشامخة مثل نخلة دهرية في وجه أعاصير الزمن. قرأ الشعر الكلاسيكي، وعاش حالاته، وأعجب به جداً، وحفظ ما استطاع منه، وكتب على نمطه دون أن يستغرق فيه مع العلم أنَّ بحوره واسعة، وأمواجه عاتية لم ترهقها كلُّ الزوارق والبواخر المبحرة فيه، ولاتزال آفاقه رحبة تتسع لتجارب أجيال وأجيال. لكن قصيدة التفعيلة استهوته أكثر فأبحر في مفاتنها على متن تفعيلة من البحر الكامل، أو البحر البسيط أو البحر الطويل أو غيرها ولازال في تجديف دائم لعله يترك أثراً جميلاً على شواطئها. والنتيجة يبقى الشعر مهما كان الشكل المكتوب فيه فأنشد في قصيدة “قمران فوق الشام”:
يا شامُ يا شامَ العروبةِ
منذ فجرِ العشقِ
حتى آخر الصلواتِ في كتبِ القيامةِ
أشرقي بالياسمينْ
أنتِ التي لولاكِ
ما اعتنَقَتْ مواويلي
الحنينَ المُستحمَّ
بماءِ دجلةَ والفراتِ
ولا الأغاني عندَلَتْ في البالِ
أو عزفتْ أناشيدَ الخلودِ
إلهةُ الأرزِ الحصينْ.
أنتِ التي لولاكِ
ما افترشَ الكنانةَ نِيلُ قلبي
منذ أولِ رقصةٍ للعشقِ
في الزَّمنِ الجميلِ
بُعيدَ حنجَلةِ الحنينْ.

الوطن يسكنني وأسكنه

القصيدة في شعره ترجمة للعاطفة بأشكالها كافة، والبوح الصادق لما يختلج في نبضه ووجدانه، فالوطنية ترسم لوحة العلاقة بينه وبين وطنه كما يريا بعضهما فكلاهما ينظران إلى الآخر من زاوية تتيحها العاطفة له. إنَّه يراه بعينين عاشقتين على الرغم من كلِّ الغبار الهارب من أسئلة الريح الصعبة، والوطن يراه بعين أم لا تملُّ احتضانه رغم كلِّ مشاغباته وتأفُّفاته من عبث العابثين ويضمُّ من يشاركونه فيه، بينما تتسلَّل القصيدة الأنثى إلى وجدانه من عينيّ امرأة ساحرتين تبرقان شوقاً لعاصفة عشق تهبُّ مع إطلالة القمر من نافذة قلبه المشرعة دائماً نحو أفق الجمال، ومن بسمةٍ جُلَّنارةٍ تتفتَّح على غصنِ رمانةٍ نبتت في حقول الفؤاد، وارتوت بالندى منذ فجر الغواية، واكتست حلَّةً من مرايا الجبال، والقصيدة الروح تشقُّ عباب المدى

تسبق البرق نحوه، وتزرع في خافقه ياسميناً يُعرِّش في ساحة العمر تنسل مثل السحاب إلى سابحات الكواكب تحتل أيقونة في بروج الخيال.

قصيدة النثر

بينما أوضح الشاعر أحمدية حول قصيدة النثر بأنَّ الشعر شعر والنثر نثر إنَّهما جنسان أدبيان مختلفان، لكن أصناف النثر متعددة، ويتضمن بعضها شيئاً من خصائص الشعر كنوع من التقنيات الفنية المطلوبة للارتقاء -حسب ما يعتقد البعض- بالنص النثري من الحالة التصريحية المباشرة إلى التلميح والإيحاء الفني، مع العلم أنَّ كثيراً من النصوص النثرية مكتوبة بلغة عالية دون أن تخرج من خصوصيتها النثرية، ودون أن تعتمد على اللغة الشعرية؛ ولم ينكر الأحمدية بأنَّ للشعر لغته المحبَّبة للنفس القريبة من الوجدان، وأنَّ تطعيم لغة النص النثري بشيء من الشاعرية يضفي عليه بهاء وروعة.
أمَّا الشعر النثري فالمقصود به النصوص النثرية المكتوبة بلغة شعرية تعتمد التكثيف، والإيحاء، وتُركِّز على الصور المبتكرة، الحاملة بذرة الإبداع في قليل منها، والخارجة على المألوف دون أن تكون دائماً موفَّقة في إنشاء صور جديدة تصبُّ في خانة الشاعرية بل تتبنى المغايرة لمجرد المغايرة، والخروج على المألوف لمجرد الخروج عليه كالجمع بين المتناقضات أو بين مكونات لا تجتمع في العادة أو يكون اجتماعها غير مقبول أو مستساغ، وتكون ناشزة عن التذوق السليم في كثير من الأحيان،
ولا يخفى على أحد أن ما يُسمَّى بقصيدة النثر أثبتت تواجدها في ساحة الكتابة الأدبية، وأصبحت تُشكِّل حيِّزاً كبيراً من الكمِّ السائد في عصرنا الحالي، وفي عالمنا العربي بعد أن انتشرت بشكل كبير في الغرب، ونظر لها كثيرون، وقاموا بتحليلها وتصنيفها ضمن خانة الشعر، لكن من خلال اطلاعه على نصوص لا بأس بها من “القصائد النثرية”، وجد أن قليلاً جداً منها يرقى إلى مصاف الشعر، ويكون السبب استسهال الكتابة فيها لأنَّها لا تحتاج إلى كثير من الإلمام بقواعد الشعر لا سيما الإيقاع اللفظي مَنْ يطرب الأذن، وكل ذلك كان سبباً في كثرة المتطفلين على قصيدة النثر حيث ذهب معظمهم بعيداً عن الشعر وانغمسوا في الهلوسات، والتوهان في عوالم يصعب التعرُّف إلى ماهيَّتها، ورأى إلى المتاهات بأنَّها كتبت ليفهمها من كتبوها دون غيرهم، كما لايمكن أن ننكر أنَّ بعض الشعراء المجيدين في الشعر الكلاسيكي أو العمودي كتبوا قصيدة النثر، ونجحوا في الوصول بها إلى مرحلة القصيدة المستحقِّين اسمها.

أعماله

لم يكن الشعر الأوحد في حياة جهاد أحمدية؛ بل عمل مترجماً، وأصبح عضو هيئة المكتب الفرعي لاتحاد الكتَّاب العرب في السويداء منذ 2011 حتى 2021، وعضو هيئة تحرير جريدة الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتَّاب العرب 2021، ومقرِّر جمعيةِ الشِّعر في اتِّحادِ الكتَّابِ العرب 2022 و2023، وعضو المجلس المركزي في اتحاد الكتَّاب العرب 2024.
كما نشرت له دواوين شـعريَّة منها:
افتتاحية العشق  1993، المهرجان أو شمس الروح 1999، مرايا الحلم 2004 في دمشق، وديوانان صادران عن اتحاد الكتَّاب العرب بعنوان خارج الطيف  2010، وأفئدة الجلنار 2017.
كما قدَّم ترجمات منها: “مكاشفات  شـعر مفيد خنسة ترجمة إلى الإنكليزية 2003″، “أغنيات البراءة والتجربة شعر (وليم بليك) ترجمة عن الإنكليزية 2005″، “شجرة تحلم بالطيران مختارات من الشعر الصيني في القرن العشرين  2019″، “الملفوف والملوك رواية للكاتب الأمريكي أو هنري – ترجمة عن الإنكليزية” والكتابان صادران عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2021.
وعن دراساته أفادنا بأنه كتب: “قالت لي العصفورة عن ديوان “مرايا الحلم” لمجموعة من الأدباء 2022″، “النقد الاحتمالي في الشِّعر السوري المعاصر مفيد خنسة دراسة نقدية لعشرةِ قصائدَ شملت عشرِ شعراء سوريين معاصرين”. الكتابان صادران عن دار جهات دمشق 2023

            

العدد 1203 –3 -9 -2024        

آخر الأخبار
مخلفات الفساد تلاحق محصول القمح في حماة.. وأضرار أولية بـ 4 مليارات ليرة   "صندوق التنمية السوري" بين إعادة الإعمار وبناء الثقة الوطنية  الرئيس الشرع : سوريا تكتب تاريخ البلاد بأيدي وأموال السوريين   استثمار مباشر في سوريا..  وفد شركة SALT الأميركية في حسياء الصناعية   تأهيل مشتل الطعوم ومعالجة الهموم الزراعية في إدلب  2.5 مليون طن الإنتاج السنوي للأشجار المثمرة بعد إلغائها لطلاب الثانوية… "التعليم العالي" تمنح دورة تكميلية لبعض الفئات الجامعية جناح "الأشغال العامة والإسكان".. مبادرات استثمارية وتنموية لتطوير قطاع الإنشاءات إحياء السياحة بالسكك الحديدية  The New Arab  بين السرديات الإعلامية العبرية والإنجليزية، إسرائيل تخفي اعترافاتها بجرائم الحرب الاعتداءات الإسرائيلية في سوريا.. تهديد خطير للسلم والأمن في المنطقة والعالم  الاتحاد الأوروبي يقدم 22 مليون يورو لتخديم أكثر من 6.5 ملايين  شخص في سوريا صحيا   تعاون  بين الشبكة السورية لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية لدعم مسار العدالة  "الأشغال العامة": استكمال أعمال إنشائية في جامعة طرطوس   فرص التصدير في معرض دمشق الدولي صابون الغار.. إرث حلبي يعبر الزمن في "دمشق الدولي"  متابعة تحسين الخدمات ضمن حملة "ريف دمشق بخدمتكم" جناح المؤسسة العامة للأسماك.. قصة غذاء وصحة وتنمية مستدامة  جناح " الأوقاف "تجسيد رسالة سوريا الجديدة    ريف دمشق في معرض دمشق الدولي.. ذاكرة وطن وهوية لا تُنسى