الثورة – ترجمة رشا غانم:
دأبت الولايات المتحدة مؤخرا على الترويج لـ “تقاربها” مع الشركاء الآسيويين.
ففي حوار شانغريلا السنوي في سنغافورة في حزيران، أطلق وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن على تصريحاته عنوان “التقارب الجديد في المحيطين الهندي والهادئ”، وفي معهد بروكينغز في الشهر التالي، أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين بأن الولايات المتحدة تتمتع “بتقارب أكبر بكثير” مع الشركاء الآسيويين الرئيسيين، مشيرا إلى تحسن العلاقات مع اليابان وكوريا الجنوبية وتعزيز الروابط الأمنية بين الناتو ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وفي تموز أيضا، في منتدى آسبن الأمني، كرر بلينكين أنه “لم ير وقتا كان فيه تقارب أكبر بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين وشركائها في آسيا فيما يتعلق بالنهج تجاه روسيا، ولكن أيضا فيما يتعلق بالنهج تجاه الصين”.
ولكن الحقيقة هي أن الولايات المتحدة تفقد أرضيتها في أجزاء مهمة من آسيا، ففي كل عام، يستطلع معهد ISEAS-Yusof Ishak- وهو معهد بحثي تموله الحكومة السنغافورية بشكل أساسي ولكنه يدير عمله بشكل مستقل- ما بين 1000 إلى 2000 مستجيب في الأوساط الأكاديمية ومراكز الفكر والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات غير الربحية ووسائل الإعلام والحكومة والمنظمات الإقليمية والدولية من الدول العشر في رابطة دول جنوب شرق آسيا، وتبين في الاستطلاع هذا العام، أن غالبية المستجيبين اختاروا الصين على الولايات المتحدة عندما سئلوا عمن يجب أن ينحاز الآسيان معه إذا أجبروا على الاختيار بين الاثنتين، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يختار فيها المشاركون الصين منذ أن بدأ الاستطلاع في طرح هذا السؤال في عام 2020.
يجب أن يدق هذا الانخفاض في دعم الولايات المتحدة أجراس الإنذار في واشنطن، التي تعتبر الصين المنافس الرئيسي لها ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ ساحة معركة حاسمة، حيث تقع جنوب شرق آسيا في القلب الجغرافي لهذه المنطقة الشاسعة والديناميكية، وهي موطن لحليفين للولايات المتحدة (الفلبين وتايلاند) والعديد من الشركاء المهمين.
إن أهداف الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ تعوقها خسارة الأرض أمام الصين، وستكون الفلبين وسنغافورة-حيث تمتلك الولايات المتحدة منشآت عسكرية-ذات أهمية خاصة في حالة نشوب صراع صريح بين الصين والولايات المتحدة، ولكن بعيدا عن الحرب، فإن نفوذ الصين المتزايد في جنوب شرق آسيا لا يزال يضعف قدرة أمريكا على الانخراط بشكل ثنائي ومتعدد الأطراف، إلى التأثير الاستراتيجي.
في السنوات الأخيرة، حققت الولايات المتحدة بعض النجاحات في جنوب شرق آسيا، حيث عززت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن العلاقات مع الفلبين على وجه الخصوص، كما أمنت الوصول إلى أربعة منشآت عسكرية جديدة في عام 2023، ورداً على المشاركة الدبلوماسية الرفيعة المستوى المستمرة التي بلغت ذروتها في زيارة بايدن إلى هانوي في أيلول من العام الماضي، رفعت فيتنام رسميا علاقتها مع الولايات المتحدة بمستويين إلى “شراكة استراتيجية شاملة”- على الرغم من مدى ترجمة ذلك إلى زيادة التعاون في الدفاع والأمن وتعميق العلاقات الاقتصادية.
ومع ذلك، مع معظم البلدان الأخرى في جنوب شرق آسيا، كان أداء الولايات المتحدة الأسوأ، ففي استطلاعه لعام 2020- العام الأول الذي سأل فيه معهد ISEAS-Yusof Ishak المستجيبين “إذا اضطر الآسيان إلى الانحياز إلى أحد المنافسين الاستراتيجيين، فما الذي يجب أن تختاره ؟” – اختار 50.2 في المائة الولايات المتحدة، مقارنة بـ 49.8 في المائة اختاروا الصين، وعند تعديل الردود (كما حدث منذ استطلاع 2022) لضمان تمثيل ردود كل بلد بنسبة متساوية، ففي عام 2023، اختار 61 في المائة من المشاركين الولايات المتحدة مقارنة بـ 39 في المائة ممن اختاروا الصين، على الرغم من أن أداء الولايات المتحدة كان أقل من المتوسط الإجمالي في بروناي وإندونيسيا ولاوس وماليزيا وتايلاند. ومع ذلك، في استطلاع عام 2024، تجاوزت الصين الولايات المتحدة كشريك في اختيار المنطقة: اختار 50.5 في المائة من المشاركين الصين، واختار 49.5 في المائة الولايات المتحدة.
ومن المحتمل أن يكون دعم الولايات المتحدة القوي لإسرائيل قد قلب الموازين لصالح الصين، حيث صنف أولئك الذين شملهم الاستطلاع في جميع البلدان الثلاثة ذات الأغلبية المسلمة الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين على أنه مصدر قلقهم الجيوسياسي الأكبر: 83 في المائة من الماليزيين، و 79 في المائة من برونيان، و 75 في المائة من المستجيبين الإندونيسيين اختاروا هذا الخيار، كما صنفت سنغافورة، التي تضم أقلية كبيرة من المسلمين، الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين على أنه مصدر قلقها الأكبر، حيث اختار 58 في المائة من المستجيبين هذا الخيار.
إن نتائج المسح متسقة مع المحادثات الدبلوماسية الأخيرة في المنطقة، فقد كان الدبلوماسيون الإندونيسيون ينتقدون موقف الولايات المتحدة من الحرب في غزة، حيث أعلن دبلوماسي ماليزي كبير ببساطة أننا “سنختار الصين بسبب غزة”، وفي محادثة منفصلة أجراها كاتب المقالة، أوضح مسؤول ماليزي رفيع المستوى أنه على الرغم من أن ماليزيا اتبعت منذ فترة طويلة سياسة خارجية غير منحازة وانتقدت سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فقد ازدادت حدة الغضب تجاه إسرائيل والولايات المتحدة ؛ حيث يقاطع العديد من الماليزيين الآن العلامات التجارية الأمريكية للأغذية والمستهلكين، وعلى النقيض من ذلك، يُنظر إلى الصين في ضوء إيجابي بشكل متزايد.
وأما بالنسبة لكمبوديا، ففي الاستطلاع، تبين وقوفها مع الصبن، ففي تموز الماضي، زار وزير الدفاع الأمريكي أوستن بنوم بنه لاستكشاف فرص تعزيز العلاقات الدفاعية، ولكن هذه المحاولة لتعزيز العلاقات مع كمبوديا تراجعت كثيرا بالنسبة لارتباطات بكين مع البلاد.
ففي عام 2019، ورد أن كمبوديا أبرمت صفقة تمنح الجيش الصيني وصولاً حصريا إلى قاعدة ريم البحرية على ساحل خليج تايلاند، مما يمنح الصين مزايا استراتيجية ولوجستية-
على الرغم من أن كلاً من بنوم بنه وبكين نفيا أن تستخدم الصين القاعدة لأغراض عسكرية. كما تلعب الصين دورا كبيرا في اقتصاد كمبوديا، ووفقا لمجلس تنمية كمبوديا، وهو وكالة حكومية كمبودية مسؤولة عن تشجيع وتيسير الاستثمار، استحوذ الاستثمار الصيني في أيار على ما يقرب من 50 في المائة من إجمالي تمويل كمبوديا؛ بينما استحوذت الولايات المتحدة على أقل من واحد بالمائة، وفي آب، بدأت كمبوديا في قناة ممولة من الصين بقيمة 1.7 مليار دولار لربط بنوم به بخليج تايلاند، حيث يتم الترحيب بالاستثمارات الصينية بشكل عام في جنوب شرق آسيا.
وبالمثل، وعلى الرغم من أن واشنطن قد تروج للولايات المتحدة “للعلاقات المحسنة مع فيتنام، إلا أن الصين تتمتع بنفس المستوى من الشراكة منذ عام 2008، فبعد ثلاثة أشهر من ترقية الولايات المتحدة، تحركت هانوي لزيادة رفع العلاقات الاستراتيجية لفيتنام مع الصين، وأعلنت العاصمتان عن 36 صفقة تعاون جديدة، وأصدرت هانوي بيانا مشتركًا بشأن العلاقات الدبلوماسية التي تلتزم بالصياغة المرجوة من الصين.
ولكن مشاريع مبادرة الحزام والطريق مرحب بها بشكل عام في جنوب شرق آسيا لإمكانات النمو والتنمية التي توفرها للبلد المتلقي.
إن نفوذ الصين المتزايد في جنوب شرق آسيا يعيق قدرة الولايات المتحدة على المشاركة بشكل ثنائي ومتعدد الأطراف في المنطقة لتحقيق تأثير استراتيجي، كما أن التصورات بأن الولايات المتحدة لديها معايير مزدوجة في سياستها الخارجية، قوضت قدرتها على كسب دعم أكبر، فعندما ينظر العديد من سكان جنوب شرق آسيا إلى الولايات المتحدة الآن، فإنهم يرون دولة مختلة في الداخل وتدفع أجندة عارية للمصلحة الذاتية في الخارج.
المصدر – فورين أفيرز