الملحق الثقافي :
واحد من أهم الموثقين العرب الذين أثروا المكتبة العربية بالوثيقة المزدوجة تاريخاً وصورة، حاورناه منذ عقدين من الزمن، وكان المرض ينهش جسده لكنه قاوم وأعطى وزرع فينا الكثير من الثقة في هذه الفسحة من الذاكرة إحياء لذكراه نستعيد بعضاً من الحوار معه.
قتيبة الشهابي.. اسم ما إن يتردد حتى يقفز إلى الذهن شريط طويل من العطاء اللامتناهي، تقفز إلى الواجهة أوابد دمشق، أزقتها شوارعها، صروحها المعمارية الخالدة تتراءى أمامك لوحة لا تستطيع أن تحدها أو أن تقف عند نهاية لها، فالرجل في قمة العطاء وإن كان قد بلغ السبعين من العمر وتجاوزها إلى الثالثة بعد السبعين.. كل يوم يفاجئك أنه نبع ثر يعطي بلا حدود، لا يسأل عن الشارب ولا عن الذين قد يلقون الحصى في مجرى النبع إن لم يحسنوا التقدير.
قتيبة الشهابي كنت أظنه شيخاً طاعناً في السن غارقاً في مجلدات تاريخية تزينها (عين الكاميرا) لم يكن يخطر في بالي أنه طبيب أسنان، نعم طبيب أسنان، واليد المبدعة لا تقف عند مهنة الحياة، بل تتجاوز مهنة العمل إلى الإبداع في مجال آخر.. قتيبة الشهابي..الطبيب، المؤرخ الباحث.. الرسام.. الشاعر الذي حطم قلمه بعد أول خفقة قلب وبعد أن كان الصيد.. القاص الذي غادر لغة(الحكي) إلى لغة أخرى بعد أن نال جائزة في القصة.. المصور الذي خبر لغة الصورة وأبدع فيها.. قتيبة الشهابي لم نتذكره إلا مؤخراً وإن كنا لم ننسه لكننا آثرنا أن يكون حوارنا معه دافئاً متدفقاً، توقعنا أن تكون الكآبة والصمت عنواناً يلف وقته بعد أن سمعنا بمرضه لكنه كان الأكثر حيوية وشباباً وأملاً.
حياة وذكريات
حياتي كتابي مفتوح، ليس لدي أي أسرار أخفيها هكذا بدأ د.الشهابي حديثه، ففي الشام ولد،1934 وكان جده(قمائمقام) في قطنا ريف دمشق، أما أبوه فيحمل الجنسيتين السورية واللبنانية ومازالوا يمتلكون منزلاً في جنوب لبنان حتى اليوم، لكن العدو الإسرائيلي لم يبق من بيتهم الحجري الجميل إلا الجدران فقط، حتى الأشجار المعمرة المحيطة بها قطعها بأكملها، لكنه لن يفرط به أبداً، ويبقى جرح لبنان جرحنا وتبقى الشام وبيروت في البلوى معا مهما نعق الناعقون.
من المهنة الإنسانية إلى العالمية
مؤهلي العلمي: دكتور في جراحة الأسنان، وقد درست دراسات عليا في طب الإسنان بلندن في إنكلترا، وأحمل شهادة اختصاص في مداواة الأسنان كنت عضواً للهيئة التعليمية في كلية طب الأسنان بجامعة دمشق1963 – 1994.
ورغم كل الشهادات التي أحملها،لم تكن لي رغبة في البدء بالطب، وبقيت شهراً كاملاً أبكي، لأنني لم أفهم في الكلية ولا كلمة، لكني أمتلك – والحمد لله – إرادة صلبة، حتى إن زوجتي تلقبني ب-(السوبرمان) إرادتي الحديدية هذه جعلتني أدرس وأتابع لا بل أتفوق ومرضاي يشهدون على ذلك.
* كيف إذاًَ بدأت حكايتك مع أوابد دمشق تصويراً وتوثيقاً حتى أصبحت باحثاً في التراث التاريخي والأثري ليس لدمشق فقط بل لسورية والتاريخ الإسلامي؟
مغرم تصوير وعاشق للكاميرا
منذ صغري – أي عندما كنت طفلاً عمري عشر سنوات أحببت الكاميرا، وأول واحدة اقتنيتها في تلك السن كانت قيمتها ورقة سورية واحدة، لدي في مرسمي متحف للكاميرات بمختلف أنواعها، بدأت كهاوٍ ثم أصبحت محترفاً، أما كيف أصبحت باحثاً في التراث التاريخي والأثري، فالحكاية بدأت عام 1958 عندما كلفتني د.نجاح العطار بالبحث التاريخي، وهنا أود أن أذكر أن مؤرخينا، من ابن عساكر وإن كنت لا أعتبره مؤرخاً، وإنما واضع خطط لدمشق، حاراتها.. أزقتها.. فهو وسواه، كابن شداد وابن عبد الهادي لم يرصدوا مخطط المدينة، ولم يذكروا المواقع، ولو بشكل تقريبي، فهناك فرق بين أن توثق، وأن توثق وتصور بعدستك كمؤلف من خلال بحث ميداني، والمؤرخ يمكن أن يخطئ وقد يكذب أو يكتب عكس قناعاته وأحياناً يفرض عليه أن يكتب بهذا الاتجاه أو ذاك، أما الكاميرا فلا يمكن أن تكذب أو تخطئ، الصورة لها خصوصيتها إذ تجعل التوثيق أكثر مصداقية، ونحن اليوم في عصر الصورة، أو بالأحرى ثقافة الصورة، التي أصبحت تعبر وتتكلم وتلعب دوراً كبيراً في بيان الحقيقة، وأنا شخصياً أحترم الصورة أكثر من أي كتاب، ثم إن التصوير بالأبيض والأسود له جوه الخاص ونكهته، ففي عصر الديجيتال لا يوجد حماية للصورة كم كنت أتمنى لو أن الكاميرا كانت معي عندما حدثت مجزرة البرلمان 1945 في العدوان الفرنسي على سورية حتى أنقل ذلك المنظر الشنيع الذي لن أنساه ما حييت.
ذكرت في كتبك أن هناك صعوبات واجهتها أثناء عملك التوثيقي هلا ذكرت لنا بعضاً منها؟
أولها وأهمها، مصادر المعلومات، فهي قليلة جداً وغير كافية، فبعض المؤرخين تقصدوا ألا يذكروا أحداثاً معينة لغاية في أنفسهم، مع أن تاريخنا لا يكتبه إلا المنتصرون، ففي كتاب رواد الطيران العرب مثلاً، بحثت في المصادر العربية فلم أجد سوى بحث يتيم للسوداوي عبد الحميد حاولت أن أبحث في المصادر الأجنبية فلم تسعفني لأنها كانت غاية في الشح، ولم تعترف بأن العرب كان لهم الريادة والفضل في اكتشاف الطيران، وأن منهم من دفع حياته ثمناً غالياً من أجل ذلك، كعباس بن فرناس، وإنما يعتبرون أن لهم السبق في هذا المجال، وأنهم أول من اكتشف الطيران.
من ملامح الطفولة
ملامح الطفولة غنية بالتفاصيل، وقد لا تكون حاضرة بشكل دائم، ولكنها في كثير من الأحايين تأتي وكأنها ينابيع الربيع، بعد أن كانت ينبوعاً دائماً، والآن تشظت وصارت ينابيع عديدة ولكن لا بأس أن نقف عند بعض ملامحها ولا سيما أثناء المرحلة الابتدائية.
لم أكن متميزاً
أثناء المرحلة الابتدائية كانت دراستي في مدرسة(دوحة الأدب) وكان ذلك أثناء الاحتلال الفرنسي، وقد تم تأسيس هذه المدرسة رداً على المدارس الفرنسية آنئذ، وكان أساتذتها عرباً، أذكر أن مديرتها كانت(عادلة بيهم) وكانت صارمة وحازمة مع ذلك كانت حنونة، وقد درستني السيدة أمل الجزائري، واللافت أن عدد البنات كان(30) بنتاً والشباب(4).
شهدت مجزرة البرلمان..
ومن جعبة الذاكرة يقف د.قتيبة الشهابي عند المجزرة المروعة التي ارتكبها الفرنسيون بحق حماية البرلمان السوري يقول: كان بيتنا مقابل بستان الرئيس حيث كان منزل الرئيس شكري القوتلي وكان آنئذ مريضاً، وكان ابنه حسان زميلي، ركبنا سيارة سوداء وذهبنا إلى البرلمان لقد رأيت منظراً لا أنساه ما حييت جثثا متفحمة، رؤوساً مقطوعة، مقاعد محطمة ديكورات مهشمة وكان عمري آنئد بحدود 15 عاماً.
الثانوية الأدبية وطب الأسنان
ومن المفاجآت التي حملها إلينا د. قتيبة الشهابي أن أباه لم يسمح له أن يدرس الحقوق، وكان الوالد محامياً ولكن المفاجأة الكبرى كانت عندما أعلن أنه دخل طب الأسنان بعد أن نال الشهادة الثانوية الفرع الأدبي، وهنا أسأله: ألا تخاف أن تطلب منك وزارة التعليم العالي أن تعيد الثانوية بالفرع العلمي لتعترف بشهادتك،.. فيرد ضاحكاً وزوجتي الأستاذة الجامعية في طب الأسنان جراحة تجميل الشهادة الثانوية الفرع الأدبي. وكان ذلك مسموحاً للفرع الأدبي.
سوبرمان يسعى لتحقيق أهدافه..
وحين نسأل السيدة زوجته عن العلاقة مع المبدع يقول قتيبة بادئاً: إنها تقول عني (سوبرمان) لأنني أتحدى المصاعب والمرض والمعاناة وتكمل زوجته الدكتورة: إنه طبيب ناجح ومتميز ومبدع ولكنه لا يسعى إلا لتحقيق أهدافه، لا يعمل في البيت شيئاً إنه اتكالي، لكنه يرد ضاحكاً: ألا أساعدك الآن في(جلي الصحون..) فترد هي: نعم بعد مرضك.. وتضيف: إنه مثال الإنسان الذي نذر حياته للعلم والمعرفة لم يثنه شيء عن ممارسة مهنته بكل نبل وإخلاص وعمل من أجل الثقافة العربية لقد زاوج بين الطب والإبداع، وكان الإبداع صوراً ملونة وجميلة يغني عمله الطبي، والعكس صحيح فهو الطبيب والمؤرخ والمصور المبدع أقانيم متماهية.
مكتبتي الشخصية إرث أعتز به..
توقفنا مع د. قتيبة حول مصير مكتبته الشخصية وسألناه: بعد عمر مديد لمن ستؤول مكتبتك.. فرد قائلاً.. لا أعرف أي مصير ينتظرها، مكتبات كثيرة ذهبت أدراج الرياح، مكتبات أخرى اهديت للمكتبة الوطنية.. أبنائي ليسوا هنا، ولا أظن أنهم سوف يستفيدون منها، على كل حال لقد شغلتم بالي بهذا السؤال لم أفكر بعد في مصيرها.
بل مؤرخ
وعندما نسأل ضيفنا أين يجد نفسه فيقدم ما قاله(روبنس) سفير بريطانيا بباريس، وكان فناناً شهيراً، إذ سئل من قبل أحد الصحفيين: هل يلهو سيدي السفير بالرسم؟ فأجاب: لا ولكنني الهو بالسفارة وأنا اقول: نعم أنا المؤرخ يلهو بالطب ولست طبيباً يلهو بالتاريخ، الطب زادي المادي، والتاريخ زادي المعنوي.
نعيش عصر التيه…؟
وحين نسأله: لماذا لا يعترف الغرب بإبداعنا، يجيب نحن لم نقدم أنفسنا للآخر بشكل جيد على الإطلاق نقلنا خلافاتنا وأحقادنا إلى الغرب حيث حللنا ليس لدينا خطط ولا استراتيجيات ولا وسائل إعلام تخاطب الآخر، إننا نعيش عصر التيه..
الرحالة العرب لم ينصفوا دمشق
ويرى أن الرحالة العرب بدءاً من ابن بطوطة ووصولاً إلى من شئت منهم لم يكونوا منصفين في وصفهم لمدينة دمشق، بل إقول إن الرحالة الغربيين هم من أنصفها ولا سيما الفارس دارفيو وأشير إلى ما قاله الشاعر لا مارتين عندما زار دمشق ومر في خان أسعد باشا وقال: إن أمة تملك مهندسين يبنون مثل هذا الصرح لهي أمة جديرة بالحياة.
لا أخاف الموت..
وحين نسأله بخجل عن مرضه: يجيب لقد قهرت هذا المرض الخبيث اللعين، ولست آبهاً به على الإطلاق، ولا أخاف الموت لقد واجهت الآلام بالعمل والأمل، وسأعمل دون كلل أو ملل، لا يعنيني ما أنا به سوى أنه يعيقني عما أريد تنفيذه، وما أكثر ما لدي من طموح وما أقل ما حققت من هذا الطموح. ولست نادماً على الطريق الذي اخترته في حياتي على الإطلاق لقد كان مثمراً وأعتز بما قدمته، وأتمنى لو يمتد بي العمر لأنجز الكثير مما لدي.
التاريخ 17 – 9 – 2024
العدد 1205