الثورة – رفاه الدروبي:
لا شك أنَّ للترجمة عبر العصور أهمية قصوى في نقل المعارف والثقافات بين الحضارات، حيث يتم التلاقح الحضاري، وكوسيلة تواصل بين الناس، ونشر المعرفة بين الشعوب، ويسهم في الصلات المعرفية والانفتاح على الآخر المختلف، ما يبني جسور تواصل حضاري، يؤدي لكسر حدّة سوء الفهم بين البشر، إنَّها إحدى الوسائل المهمة للقضاء على الكراهية، وما تولّده من صراعات وحروب.
بحث بدأته الدكتورة عبير حمود خلال الندوة الوطنية للترجمة بعنوان “الترجمة والتأثير في الرأي العام” في مكتبة الأسد الوطنية.
الرأي العام
الدكتورة حمود رأت أنَّ التطور البشري المذهل في العصر الحالي، لم يكن ليحدث لولا الترجمة، كونها تستفيد من علوم الآخرين، وتفيد إبداعاً جديداً، يضاف للسابق عليها، فالترجمة تعتبر نافذة نطلّ عبرها على منجزات الآخر، مثلما تجعل الآخر مطلاً على منجزاتنا في العلم والأدب بدون أي حواجز. إنَّها سفر إلى العالم كله، فنتعرّف إلى الآخر دون جواز سفر، شرطها الوحيد إتقان لغتين: لغة المصدر ولغة الهدف فكان الرأي العام في السابق يتشكل في المجتمع، من خلال أفكار يمكن أن يُشكَّلها أصحاب الرأي والحكماء والخطباء، كونهم ينشرونها شفاهاً، ثم بدأت الكتابة المسمارية منها والهيروغلوفية عام 3200 قبل الميلاد، ، لكنَّها بقيت محصورة في المعابد، وحكراً على كهنتها، إذ شكَّلوا رأياً عاماً اتبعه معظم البشر، ولا ننسى دور الشعراء في العصور القديمة والوسطى، فكانوا وسيلة إعلامية مؤثرة في تكوين رأي عام، لأنهم يخاطبون عقل الناس ومشاعرهم معاً، ولكن بعد اختراع كوتنبرغ للطباعة، حدثت ثورة معرفية، فانتشرت القراءة على نطاق واسع، واستطاعت الكتب أن ترتقي بوعي شريحة كبيرة من البشر، لاسيما في أوروبا، فكانت حركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية أحد عوامل نهضتها، لذا نشطت فيها الحركة نفسها من الكتب العربية باعتبارها كانت لغة عالمية في العصور الوسطى، خاصة أنَّها ترجمت التراث اليوناني، فبدت للآخرين لغة وسيطة، مع أنَّها أبدعت في مختلف العلوم والآداب، ولا يمكن إنكار قدرة الآخر على اختيار كتب تؤثر في نهضة الوعي العام والتنوير، إذ انتشرت الأفكار العقلانية بفضل الترجمة، فشكلت رأياً عاماً جديداً في أوربا.
بينما عادت الدكتورة حمود إلى ما كانت عليه منطقتنا العربية، إذ أسهمت الترجمة في تشكيل رأي عام جديد فيها، وبدأت بظهور أول مطبعة في اسطنبول وحلب، ومن ثم جاءت الحملة الفرنسية على مصر، فاستيقظنا على صوت مدافعها، وظهر لنا البون الشاسع بين التطور الحاصل في أوروبا وبين التخلف العلمي عند المماليك بعد خروج الحملة الفرنسية، وإنَّ سر قوتهم، يكمن بالعلم والصناعة، حيث أرسلت البعثات العلمية إلى أوروبا، ما أنعش بذلك الأذهان، ورمى حجراً في المياه الراكدة، فبدأ بتشكيل رأي عام جديد وطرح فكرة أن ثمة عالماً أصبح متنوّراً، سبقنا بمسافات بعيدة، فطرح مع رجال النهضة الآخرين في ذاك العصر فكرة تدور فحواها حول أسباب تقدم الغرب ولماذا تأخر العرب؟
تجربتها الخاصة
كما تناولت المحاضرة تجربتها الخاصة في الترجمة والتأثير في الرأي العام، مؤكَّدةً أنَّ المترجم يلعب دوراً محورياً في تشكيل الرأي العام، من خلال اختياراته للعناوين ذات المحتوى المهمّ، مَنْ يخاطب المتلقي؛ كي يغني عبرها أفكاره، فيرتقي بعقله وذوقه الجمالي، وبذلك يسهم في نشر أفكار جديدة بنّاءة، إذ إن المترجم صاحب رسالة توعوية؛ منوهةً إلى تجربتها في كتب ترجمتها منها
كتاب “أمراض وسائل التواصل الحديثة” من أجل مخاطبة الرأي العام والتأثير فيه، رأت من الأفضل تغيير كلمة “Malades” وتعني “مرضى” في الفرنسية إلى “أمراض”؛ كي لا يستفز المتلقي بأنَّ العنوان يتوجه إليه بصفته مريضاً، أمَّا كلمة “أمراض” فإنَّها تحذره من وسائل يمكن أن تصبح مرضاً يصيبه، وتعتقد بأنَّ وسائل التواصل الحديثة، أصبحت جزءاً أساسياً من حياتنا المعاصرة، وسلاحاً ذا حدّين، في توجيه الرأي العام.