الملحق الثقافي- كمال الحصان:
الأدب السياسي، هو أدب ، يمكن تعريفه بدلالة لفظه، على أنه أدب يحدده الموضوع (السياسي) والأسلوب الأدبي)، والمهارة في إظهار الفكر السياسي من خلال قالب أدبي معبر وبليغ، إنه ليس جنساً أدبياً محدداً، لأنه يعبر عن نفسه في كل الأجناس الأدبية المعروفة، وأنا لست مع القائلين بحصر هذا النوع من الأدب، بالتعبير عن الظلم أو القهر الاجتماعي وما نحو ذلك فقط، لأنه أدب يتناول موقف الإنسان من الحياة بكل تجلياتها وعلاقته معها عن طريق التعبير الأدق والأعمق والأشمل، إنه الرؤية السياسية من خلال الكلمة الأدبية الرشيقة والبليغة، غرف العرب الأدب السياسي عن طريق أمم وشعوب أخرى کالهند وبلاد فارس، حيث أخذوه عنها وأضافوا إليه وزادوا وأجادوا وزينوه بطرائفهم ونوادرهم، ولو أن التبسيط هنا يقتضي أن نقول: إن هذا الأدب، هو السياسة بصياغة أدبية، أو الأدب المجبول بشيء من السياسة، وفي رأيي، إنه أسلوب بلاغي مشوق، هدفه إيصال موقف سياسي ما، أو التعبير عنه، ببيان رشيق وموارب.
يعدّ عبد الله بن المقفع، رائد هذا النوع من الأدب، ومؤسسه في الأدب العربي بلا منازع، وذلك على نحو ما نعرف، وخاصة في كتابه المترجم الشهير كليلة ودمنة»، الذي تجرى حوادثه وحواراته على ألسنة الحيوانات، الأمر الذي لم يكن معروفاً تلك الأيام عند العرب، ويبدو أن الدافع إلى ذلك كان ليس شيئاً آخر غير التشويق الذي يراد به إثارة اهتمام القارئ، أو محاولة ابتكار فن جديد من فنون الأدب، عبد الله بن المقفع، الذي هو أشهر من أن يعرف هو كاتب ومؤلف فارسي الأصل كان اسمه «روزبه» قبل إن يدخل الإسلام، وكان أبوه موظفاً في الدولة الأموية، وقد عاش في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي الذي شهد بداية تدفق الحضارة الفارسية إلى المنطقة العربية، وكان ابن المقفع يتقن اللغتين الفارسية (لغته الأم) والعربية، وقد ولد في جور» من بلاد فارس، عاش ستة وثلاثين عاماً فقط، ويقال واحد وأربعين عاماً، وقد سئل مرة من أدبك …؟ فأجاب، أدبت نفسي قيل وكيف ذلك …؟ قال: إذا رأيت من غيري حسناً أتيته، وإذا رأيت قبيحاً أبيته.
يعد الأدب السياسي لوناً مهماً من ألوان الكتابة الأدبية، وقد برزت أهميته في عصرنا هذا، الذي يتميز أكثر ما يتميز، بطغيان ووفرة مصادر المعلومات وسهولة الحصول عليها، مما شكل حاجة ملحة، إلى أدب متميز فى المجال السياسي، بعد أن طغت على الساحة الأدبية السياسية، أشكال شتى ومناهج عدة بات معها اجتذاب القارئ الباحث عن الفكرة أمراً غير يسير، وبعد أن أصبح لهذا اللون من الأدب وعين أخرى هي الدخول إلى عقل القارئ بهدف مشاركته ومساعدته وتطوير موقفه، وبذلك ننتقل بهذا الأدب من مرحلة الأدب الموارب والمداور والإشكالي، إلى الأدب البناء والمصحح والمقوم، مع تشويق وطرائة محسوبتين بدقة.
لقد كان هذا النوع من الأدب في فترة من الزمن، يعدّ منفذاً سليم العواقب، لصاحب الرأي الآخر، الرأي المخالف، في وقت كانت المسافة فيه، شاسعة بين الحاكم والمحكوم، وكان إيصال الرأي للطرف الآخر غير متاح، لا لوجستياً ولا معرفياً، وكان فيه الإعلام وسيلة فردية قاصرة وحتى شبه معدومة.
إن أسباب انتشار هذا النوع من الأدب بمفهومه السابق، قد زالت في أيامنا هذه، حيث صار إيصال المعلومة، أو الرأي الآخر، مخالفاً كان أو موازياً أو مطابقاً، وبتقنيات القرن الواحد والعشرين المعروفة، سهلاً جداً ومتاحاً تماماً، ودونما رقيب أو محاسب أو مسائل، وننوه هنا إلى أن الأدب الساخر، الذي ينتشر هذه الأيام انتشاراً واسعاً، يعتبر من حيث النتيجة رافداً هاماً من روافد ومقاصد الأدب السياسي.
وبشكل عام، إن الخطاب السياسي الأسرع للقبول والفهم، هو ذلك الخطاب الممزوج بالأدب والمصاغ بلغة سهلة وبليغة، وفي نفس الوقت، هو الخطاب الذي تصب كلماته في القلب، قبل أن تمر على العقل، ثم تستقر في الاثنين معاً، وفي القدر نفسه.
إن ما يمكن أن نسميه اللغة السياسية المحترفة، وهي لغة جافة» عموماً، لا تحتملها النفس طويلاً، وستكون أكثر قبولاً لو صيغت بلغة الأدب السياسي، وبقصد التقريب والبيان والتعريف نورد الطرفة التالية، عن دور ومقاصد الأدب السياسي:
جاء في كتاب ابن المقفع كليلة ودمنة: «كان رجل وزوجته ينامان في بيتهما، بعد يوم من الشجار الطويل وفي الليل دخل عليهما لص يريد سرقة البيت، فخلعت المرأة نعلها وألقت بنفسها هرباً من اللص إلى جانب زوجها في الفراش، تعانقه بشدة، من شدة الخوف، فنسي زوجها اللص، وعانقها بالمثل وهو يقول: تعال يا لص كل يوم…؟!
هذه الملحة الخفيفة مثلاً، سيكون لها فعل السحر في إيصال فكرة محددة، في وقت معين وفي سياق زمني وحدثي مناسب، لقد كان ابن المقفع يريد أن يقول رب ضارة نافعة فقالها بهذا القالب المشوق الذي لا ينسى.
إذا كان الكلام بمعناه طريقه العقل، فإن الكلام المحمل على أناقة الكلمة والصورة، طريقه القلب إلى القلب، وفي القلب تستقر القناعة.
العدد 1210 – 22 – 10 -2024