الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
الفن هو كلّ شيء يؤخذ من طبيعة الواقع، ويصاغ بأسلوب جديد، وهو ذاك النوع من الفنون الذي يُعبِّرالفنان من خلاله عن أفكاره ومشاعره، ويسعى إلى تحويل المواد الأولية إلى إبداعات لا متناهية.. فالفنان ينشد الجمال عبرعدة أشكال سواء أكانت رسومات أم نقوشاً أم منحوتات تتطلَّب مهارة وتقنية عالية في صناعتها.
والرسام الجيد هو الشخص الذي يُجسِّد صورة حيَّة من صور خيالية.. والرسم فن لا يجيده إلا من ارتقى خياله، ونحن إذ نتحدَّث عن الدكتورعلي سليمان نكتب عن فنان عشق اللون وهام به، وكان محور لوحته وقيمها الأكثرأهمية.. فمن خلال الألوان يصوِّر ويُعبِّرعن حساسيته الداخلية وخصوصية ألوانه المتشكِّلة من البقع اللونية المتجانسة مع بعضها حيث اللون الواحد ومشتقاته وما يناسبه بتلقائية فنيَّة، متلاعباً في كلِّ عمل بحركة الريشة وانبعاث الألوان من مشاعره وانفعالاته الوجدانية، محقِّقاً في ذلك البعدين التعبيري أو الانطباعي.
ومنذ طفولته وقبل دخوله المدرسة تعلَّم قراءة القرآن الكريم، وكان والده قد علَّمه التجويد والخط العربي، إذ فُتن بالزخارف والطبيعة الجميلة في طرابلس ومناخها المحرِّض للإبداع فنشأت علاقة حميمة بينه وبين اللوحة، وكان أول مرسم له في منزله عندما حوَّل جزءاً منه إلى خيمة يستطيع الرسم فيها حيث أمَّنت له العزلة.
بدأ يرسم فيها في طرابلس ثم انتقل إلى حمص وتابع تعليمه في مركز الفنون الجميلة.. قال الفنان: (إنني في كلِّ مرة أعيش في المرسم أسعى لعالم إبداعي محرِّض للإنتاج، وذلك في حياة كلها عمل متواصل وبحث في مساحة اللوحة عن الإدهاش والتحوّل)، موضِّحاً أنه عندما تكون حياتك في المرسم منذ طفولتك لا بدَّ أن تكون علاقتك بالمنتج في هذا المرسم علاقة إنسان بأعضائه الجسدية، مبيِّناً أنَّ اللوحة هي صورته وتطورملامحها يترافق بتغيّر ملامحه مع الزمن، ولوحة اليوم هي تطورللوحة الأمس وامتداد تاريخي لعملية بحث ولد معه ونما حتى يومنا هذا.
كما يرى أنَّ الإنسانية تعاني منذ قابيل وهابيل من شرِّ الإنسان والخطيئة حتى رأينا ثيمة تفاحة آدم تعيش طويلاً في مرسمه، وتتحوَّل في أعماله كرمز وعنصر مهم في مفردات لوحته المتطورة، ما ساهم في تقديم معرض كامل وبلغة معاصرة في لوحة خاصة تطورت معه من خلال البحث الدائم.
وقد عاش سليمان الأزمة في سورية، ورأى أنها لعبت دوراً سلبياً في حياة كل إنسان، وخاصةً في وجود الجهل والحصار الاقتصادي وفقدان المواد والخامات والألوان والورق… إلخ.
ومن حاجات الفنان أن تتكوَّن لديه أزمة وكآبة وتزداد عزلته وهنا عمل الفنان مشروعاً استخدم فيه خامات وأدوات خاصة وغريبة، وأنتج فنَّاً يُعبِّر عن الحدث بروح مليئة بالبحث عن المناسب والجديد من جهة التقنيات الحديثة.. في حين عمل في مجمل أعماله على إيجاد مفردات للنص البصري تأتي من عمق الواقعية، مُبيِّناً أنَّ صياغة لوحته بشكل مجهري فيها صعوبة للقارئ العادي وذلك لرسم الألوان بطريقة تجريدية فيها من الفن الإسلامي وتكرار المفردة على سطحها ما يجعلها شرقية تراثية من ضمن الهوية المحلية بإيقاع مليء بالحداثة والدهشة والغرابة.. ويرى الفنان أن الفن سلاح جبَّار إذا أحسن الفنان استخدامه؛ ولكن بما أننا في زمن اختلطت الأوراق وضاع القياس حتى أصبحنا في زمن لا نعرف فيه الصالح من الطالح في الفن.
ويوضح سليمان أنه في النصف الثاني من القرن الماضي فتح باب الحداثة عدد قليل من الفنانين التشكيليين السوريين وفي السبعينيات ظهر مجموعة من الفنانين أغرقوا إنتاجهم في التجريب واستخدام التقانات، وطرح الحداثة في مراسمهم من خلال الهوية الخاصة والبحث الجاد والكشف الواعي لإنتاج لوحة مهمة، مُبيِّناً أنه مع بداية القرن الحديث ظهرت أسماء من الفنانين الشباب تريد اجتياز الواقع وتبرر لنفسها كلّ عمل للوصول إلى النجومية فأنتجت فناً هجيناً وغير أصيل في زمن قصير جداً.
وقال: «إنَّ العاملين على توظيف هذا الفن تجَّار سلعة، ولم يعرفوا الفن وقيمة اللوحة ومواصفات الفن الراقي»، لافتاً إلى أن «الساحة الفنية تحوَّلت إلى فوضى وتغيَّرت المفاهيم وملامح الحياة التشكيلية الجادة»، مشيراً إلى أن الفنان السوري الجيد موجود اليوم في مرسمه بكرامة وعزة وكبرياء ينتج فناً ذا قيمة، محافظاً على هويته الأصيلة بعيداً عن الضوضاء والفوضى.
كما بيَّن الأستاذ في كلية الفنون الجميلة أنَّ «الكلية كانت مهمة جداً حتى نهاية القرن الماضي؛ حيث بدأ بعدها الضعف في مستواها ولأسباب عديدة أهمها: كثرة الطلبة وقلة الموهوبين، والخلط بين البحث العلمي الفني والإنتاج في المرسم والبحث النظري، ومحاولة إلغاء المرسم أو الإنتاج، ودخول الكثير ممن ليس لهم علاقة في الأكاديمية الفنية والفن عموماً إلى صياغة القرارات والتكسُّب»، موضِّحاً أنَّ هناك من «يعمل على مقاومة الخطأ بكلِّ صبر وجهد وخلق مناخ محرِّض للإبداع رغم كلِّ الظروف».
ورأى سليمان «أنَّ الحياة العلمية والتطور في الاتصالات والانترنت لعبا دوراً سلبياً في إنتاج الفنانين الشباب، وخاصة من يريد اختصار الطريق لتقديم لوحة دون تعب»، وأكَّد على أن الفنان خير سفير لبلاده يمثلها في المعارض العالمية ويعرض أعماله الخاصة في معارضه أينما ذهب في زهو وافتخار أما في الأزمات فعلى كل المبدعين أن يلتصقوا بوطنهم ويعيشوا المحنة ليحولوها إلى إبداع.
ومن المعروف أنَّ التشكيلي الدكتور علي سليمان من مواليد طرابلس لبنان عام 1955.. تخرَّج في كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1981، وحصل على درجة الدكتوراه في التصوير من جامعة برلين بألمانيا عام 1986، ثم تابع دراسته الفنية العليا في المدرسة العليا للفن «فايسن زيي برلين» بألمانيا بين عامي 1982 و1987، كما حصل على دكتوراه في التصوير الجداري اسبرنت ومايستر كلاسيه كأستاذ أكاديمي للفن عام 1987، وهو عضو الهيئة التدريسية في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وعضو اتحاد التشكيليين السوريين واتحاد التشكيليين العرب واتحاد الفنانين الألمان، إضافة إلى أنه وقَّع مُؤخَّراً كتابه «التحول» الذي رصد تجربته الفنية الممتدة لنحو أربعين عاماً.. وله العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل سورية وخارجها، والكثير من المشاركات في المؤتمرات والمعسكرات والملتقيات والندوات الفنية العالمية، وأعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة السورية ومتحف «بوتسدام» في ألمانيا، وضمن مجموعات خاصة في عدد كبير من دول العالم والدول العربية.
العدد 1212 – 5 – 11 -2024