الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
لم تهتم العلوم الإنسانية بمصطلح ما كما فعلت مع مصطلح الهوية، مقروناً بالانتماء والالتزام بالهوية في مجالات متعددة. ولكن الكثير من الباحثين يتفقون أنَّ الهوية تمثل الوعي وما عليه الشخص الآن، أي وعيك لانتمائك ولغتك وتاريخك ومجتمعك. وإنَّ ماهية التطلعات تساعد في العمل على تحقيق أهداف المجتمع؟ وأخطر أنواع الغزو.. الغزو الفكري، باعتباره يعمل على تشويه الهوية وتمزيقها وضياعها، وخاصة لدى شبابنا من فقدوا روح الانتماء والثقة بمجتمعهم وقيمهم. لذلك يتصدر مفهوم الهوية في المرحلة المعقدة من تاريخنا بعد سنوات الحرب، ما يجعل المفهوم نفسه يزداد تعقيداً أحياناً، ويبدو غائماً وضبابياً في أحياناً كثيرة.
مقدمة بدأتها الكاتبة إيمان النايف حول «نحو خطاب ثقافي وإبداعي جديد يستعيد الانتماء والهوية والفكرة الوطنية والقومية ويعزز مكانة الإنسان» من خلال قراءتها لكتاب «تشكيل هوية الأنا في مجتمع الإنجاز» للدكتور غسان الخلف والدكتورة فريال حمود.
الإشكاليات المجتمعية المعاصرة
إنَّ الهوية تشكيل اجتماعي، وتعبِّر عن طريق تفسير الفرد لوجوده في المجتمع وإعادة تعريف شخصيته بشكل مستمر، ثم شعوره بالألفة والتنافس والمشاركة والمكانة ضمن الآخرين، لذلك يصبح الإحساس بالهوية قضية بؤرية لدى الأفراد عامة والمراهقين خاصة، وتحقيق المتطلبات ذاتها يعتمد على مساعدة الراشدين للمراهق لإنجاز الحالة الاجتماعية الملائمة له، وفيما تتعرض المجتمعات لتحولات اجتماعية ومعرفية كبيرة دعمت الرفاهية ووفَّرت البدائل، وتنوعت طبيعة القضايا الفكرية حول نوع الإنسان مَنْ يستطيع مواكبة المتطلبات المتجددة، كونه يؤدي إلى تغاير وربَّما أزمات في أنظمة التنشئة وطبيعة جهودها، من أجل إعادة النظر في مضمون الهوية لدينا، لابدَّ من العودة إلى قوانين النشوء الإنساني والتطور الشخصي، والفرص والإمكانات والأساليب وفق متطلبات الحياة العصرية.
ومنذ أن وضع «روسو، فرويد، إريكسون، وغيرهم أصابعهم على آلام وجراحات الناس، وتلمسوا وقع تأثيرها على أنماط ومستويات الشخصية، تمثلت (الأنا /الذات) بأنَّها المتضررة من مشكلات التنشئة وأبعادها بينما اعتقد (روسو) أنَّ المؤهلات يمكن أن تميز بين البشر من نواحي الخيال والكفاح في سبيل تقويم الذات أو الكمال، ودون جدال من ثوابت الوجود الإنساني، ويعتبر (إريكسون) «أن الإنسان ضحية للقهر الاجتماعي والتسلط الاقتصادي، وأنَّ علاقات مؤسسات التنشئة والسلطة المتاحة لها المتسمة بالعنف أو الفساد تمثل فشل «الأنا» والمؤسسات الاجتماعية في الوقت نفسه».
أما الفرد فإنَّ الأنانية والخوف والانتهازية لديه في ظل سوء الأحوال الاجتماعية مثلما تزدهر كل مخزونات آليات الدفاع اللاشعورية.. ومن مثل هذه الأوضاع: تبرير الحروب العدوانية، السكوت عن معاناة المحرومين اجتماعياً، استغلال الموارد في المجتمع بلا تحفظ لضمان مستوى حياة لمجتمع ما أو فئة من المجتمع.
إنَّ (الأنا) هي الجزء المسؤول في مواجهة الحياة، كما أنها المكان الذي تتم فيه رشوتنا وتقليب مواقفنا»
وظائف الهوية
بينما تزود الفرد بالبناء النفسي اللازم لفهم ذاته ومن يكون، إذ تُمكِّنه من أن يعي ذاته كشخص مستقل وفريد، وبالإحساس بالسيطرة الذاتية والإرادة الحرة، لأنَّ الهوية ترتكز على تمييز الفوارق بين السلبية والخضوع من جهة، وبين الفاعلية والكفاح من جهة ثانية، وبالمعنى والتوجه من خلال الالتزامات والقيم والأهداف، لأنَّ الهوية توجه السلوكيات المختلفة نحو موضوعاتها، كما تساعد الفرد على إدراك الاتساق والتماسك والتناغم بين القيم والمعتقدات والالتزامات، حيث يساعد ذلك على الإحساس بالتماسك المؤدِّي إلى الانسجام مع الذات وانخفاض القلق، إضافة إلى الشعور بالأمن والسلام الذاتي، وتعطيه القدرة على تقدير الإمكانات والاحتمالات المستقبلية، وتعزيز المبادرات الذاتية لتدفع بالأفراد إلى محاولات الإنجاز بشكل دائم.
تتبلور الوظائف كلها أثناء التنشئة والتفاعلات النمائية والفرص والدعم والإمكانات المثيرة لكفاح الفرد نحو تحقيقها، كما تتطلب الرعاية والمتابعة لتمكين الأفراد من صيغة جيدة لذواتهم، وذلك يتم في السياق الاجتماعي والتعليمي.
التطور المعرفي
وعن أهمية التطور المعرفي والثقافي في تطوير الذات الصحية والآمال المرتقبة للتعليم في التمكين من الهوية الصالحة لمجتمع متحرر ومتطلع إلى النجاح اعتبرتها قضايا تتوطن في كفاحنا للحياة الكريمة، من خلال شخصيات ذات معنى ومكانة في العالم من حولها، عالم يتضخم وتزداد إثراءته وتحدياته لمطالب الإنسان المطلوب منه، وإنَّ موثوقية أي جهد تربوي وعلمي يهدف إلى تكوين شخصية صحية، والعمل والبحث عن آليات دعم ومساندة تضيف إلى إرادة الراشدين كفاءة أفضل في تنشئة أبنائهم تربية متوازنة بين مصالح الآباء والأبناء والمجتمع، لتشكيل مجتمعي يتسم بالأمان والسلامة النفسية والجسدية، وتطلُّع حقيقي نحو إنتاجية تحقق تطلعات الناس
نحو الاستقرار
كما أنَّ العوامل الحضارية المعاصرة المعاشة تجعلنا نهتم بالمعرفة البنائية التطورية لأنَّ العصر الراهن يتسم بالانتقال من المعرفة المنقولة إلى البنائية، وتغيُّر أدوات ووسائط المعرفة نتيجة التحولات في عملية اكتساب المعلومات، إضافة إلى الاعتماد والتكيُّف المجتمعي مع معطيات عصر المعلومات، وإنَّ استخدام التراث الفكري، التربوي، الاجتماعي ليس مجرد تكرار، وإنَّما معطيات مهمة جداً، تجعل النظر إلى داخلنا ومن حولنا أكثر دقة.
وجهة تربوية تطويرية
إنَّ الثروة المعرفية المتميز بها عصرنا الحالي تتطلب أن نمتلك مهارات، وقدرات أساسية في التفكير والعمل، بحيث لانكون متأثرين ومستهلكين فقط، لأنَّ في ذلك خطورة على هوياتنا الإيديولوجية والاجتماعية والشخصية، وحتى القومية والوطنية، ونهتم بالوسائل المختلفة لتمكين أبنائنا من إنجازها بشكل صحي وسليم، لأنَّ عدم قدرتنا على مواكبة الكم المعرفي الهائل سيؤثر سلباً، ويؤدي بنا إلى التمركز حول الذات كشكل من أشكال العزلة النفسية. وبذلك نكون بحاجة مستمرة إلى تطوير المنهاج التعليمي وإثرائه بحيث يتابع المستجدات الفكرية والعلمية، والتدريب وممارسة الأنشطة ونقلها إلى واقع الحياة العملية، ومواجهة المشكلات الاجتماعية والشخصية والسعي نحو حلها بطرق علمية ومنطقية لخدمة الحياة اليومية للطلبة، لتضييق الفجوة بين التعليم والممارسة الواقعية.
العدد 1212 – 5 – 11 -2024