الثورة- رفاه دروبي:
إنَّه ابن الرقة موطن أول حبة قمح في العالم، أغرت الإسكندر المقدوني وهارون الرشيد، إنَّها ملتقى حضارات الشام والعراق. كانت مركز إشعاع حضاري للشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء، فشكَّلت لدى الشاعر عبد الكريم العفيدلي تراكماً معرفياً، فأصبح صاحب قلم ينتمي لبيئة التصق بها، ولايمكن فصل روحه وبوح قلمه عنها، هطلت سحب غيثها بأول قصيدة كلاسيكية حيث أنشد بضع أبيات عن القدس نهاية تسعينات القرن الماضي.
المخزون المعرفي
الشاعر العفيدلي درس الإعلام في جامعة دمشق، ومارس المهنة لسنوات عدة في صحف خاصة ومحلية وعربية، لكنَّه مالبث أن ترك الإعلام وتحوَّل لدراسة الأدب العربي، للتعمُّق أكثر بالأدب وبحور اللغة، رغم أنَّ بداياته كانت بالشعر الفصيح لكنَّه كان مغرماً بالقصيدة النبطية لكثرة سماعها في مجالس الأهل فطرب لها وأبحر بها، واستطاع الجمع بين الفصيح والنبطي، أيضاً تغلب عليه اللون الفراتي لكن لم يغلّب الفصيح على النبطي كونه يبقى سيد الشعر، وتعمد أن يصدر أول ديوان بالنبطي «مصوَّر بالعشا» كانت أغلب قصائده تميل للنقد الاجتماعي حيث تعددت أغراض القصيدة فاتحة للوجدانيات والفلسفة الذاتية والغزل، كان للبيئة دور مهم في تشكيل ذاته الشاعرة، لما تتصف بخضرتها فألهمته من معين جمالها، كما كان للأسرة والمدرسة الدور ذاته، بينما الأكثر ثراء كبار السن، ولتجاربهم ومخزونهم دور لايستهان به، دعمه والده في بناء شخصيته فكان معلمه الأول حيث نهل من معين مكتبة امتلكها تحتوي نحو ثلاثة آلاف كتاب، حيث كان جده يعزله فيها أثناء طفولته خلال العطلات المدرسية، فقرأ كتباً تاريخية وأدبية وفلسفية وروايات وغيرها، عندما شبَّ عن الطوق خبر قيمة مافعله الجد، فزادت من مداركه.
شاعرية اللغة العربية
إنَّ كل مَنْ يتعمق في اللغة العربية يدرك شاعريتها ، إنَّما الشعر ملكة يستطيع الشاعر أن يقولب شعره في نظام القصيدة العمودي أو الحر، وهناك من تمنع عنه الملكة، ولا يكون الشعر شعراً إلا بتلازم الملكة والصنعة، أمَّا مايسمى «قصيدة النثر» فكتبها بلغة شاعرية لكنَّه ضد المصطلح، ويجد أنَّه لايعبِّر عن ماهية الجنس الأدبي المستحدث يراه أشبه مايكون بالشعر الغربي، فيكون فاقداً لروح القصيدة العربية المتوارثة، واستخدم الأسلوب عينه الجاحظ وأبوالعلاء المعري وعبدالحميد الكاتب، لكن لم يطلقوا عليه «قصيدة نثر»، كما وجدت في الروايات الحديثة دواوين نثرية، وليست روايات فمثلاً عندما نتناول رواية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي يمكننا الخروج في كلِّ صفحة بقصيدة نثر، أمَّا الشعر النبطي حاضر بالدواوين كالقهوة العربية، وتاريخنا وأنسابنا وأخبارنا حالها كحال الشعر الفصيح وثيقة لاتقبل التزوير وتوارثتها الأجيال المتعاقبة.
أنسنة المكان
بينما رأى أنَّ أنسنة المكان بدأت منذ العصر الجاهلي إلى اليوم حيث أنسن الشعراء الطبيعة، وعمدوا إلى صامتها ومتحركها وأضفوا عليها العقلانية، والأنسنة تعبِّر عن العلاقة التبادلية بين الإنسان والطبيعة إنَّه حاكى «نهر الفرات» فوصفه بالعجوز فتك الحزن بعيونه:رأيت النهر في عيني عجوزاً يكاد الحزن يفري ناظريه وشبهه بالنبي: وما النهر العظيم سوى نبيٍ تعلمت العطاء على يديه ووقف متسائلاً مدهوشاً لحاله: هل شاخ أم أن الأغراب الواردين إلى ضفافه قطعوا عنه الحياة: عجبت لحاله هل شاخ فعلاً أم الأغراب قصوا رافديه ؟!يجلس على ضفافه مكان الإنسان، ويحاكيه ويتعجب من رؤيته بحاله، محاولاً استنطاقه عن حالة مارآه بها، والغرض غالباً من الأنسنة يعبِّر عنها الشعراء بأسلوب فني إظهار جماليات الطبيعة والوقوف أمامها والتأمل أكثر فالنهر عجوز حزين، والقمر يبكي، والشجرة المكسورة ساجدة متضرعة، إنَّ البيئة الفراتية ملهمة، ومنجم المفردات إن كان بالفصيح أو الشعبي فمثلاً قصيدتي جارة النهر : ياجارة النهر هل تدرين أوجاعي هل تسمعين صريراً تحت أضلاعي ماعدت أطلب همساً منك يثملني فقد صحوت مع النايات والراعي إنَّ النهر والصحو والناي والراعي، يعتبر مشهد فراتي يراه بالرقة، كما استلهمت القصيدة النبطية كلَّ أفكاره، ومفرداته فتجربته بالنقد الاجتماعي فيما مال إلى الحداثة بالقصيدة النبطية، وكتبها بلهجة بيضاء مفهومة أقرب للفصحى فوصلت لكلِّ الشرائح كالقصيدة الفصيحة، لقد وجد نفسه بالعمودي أكثر، رغم سعيه لإرضاء الذائقة من خلال تنوع الألوان الشعرية، ويجد نفسه من خلال فهمه للحداثة أنَّها ليست تمرداً على نظامها، بل تكمن بتحديث المفردة والأسلوب؛ دون المساس بالقالب سواء كان بالفصيح أم الشعبي.
الأنثى ملهمة
رأى أنَّ الأنثى جميلة شكلاً ومضموناً، لأنَّ الأنوثة تستلزم معاني الجمال، كانت ملهمة، ومفجرة الشاعرية منذ الأزل كم من شاعر ولد في لحظة عشق متجددة لكلِّ جميل بالطبيعة، وأجمل مافيها الأنثى، وغالباً ماتكون ملهمة ربَّما واقعية أو افتراضية، وكم واحد منَّا خبأ تحت وسادته صورة حورية عجز أن يلقاها بالواقع فطلب لقاءها بالحلم، كما طرق كلّ أغراض الشعر بالفصيح أو الشعبي، إلا أنَّه مال للوجدانيات كونها تعكس خلجات نفسه الداخلية، وفلسفته الذاتية، وأفكاره دون الغرق بالرمزية، وتضفي على النص عمقاً، فأجمل القصيدة السهلة الممتنعة، واعتبر الكلمة سلاحاً والحرف لايقل أثراً عن طلقة البندقية لأنَّها أمضى من الرصاصة، والمقاومة لاتحتاج معاجم لتوضيحها إنَّها قبس من نور، ولذلك فالشاعر مقاوم بالفطرة وملتزم بالقضية الأم، نظم العديد من القصائد عن طوفان غزة بعنوان «طائر الفينيق» حيث يراه العبور الثاني، وملحمة بطولية رفدت الأدب العربي بروافد غزيرة أنعشته، إنَّ العلاقة مع المتلقي تكمن في لكلَّ مقامٍ مقال فمثلاً بالصالونات الأدبية، والمنابر يتوجه إلى الفصيح لأنَّ الشريحة الأكبر تتذوقة، وعندما يكون في ديوان أو مجلس قبلي بلاشك القصيدة النبطية تحضر على لسانه، فالشاعر مصور للواقع من خلال قصيدته يجول بكاميرته ينقل المآسي والمواجع، ويبحث عن بارقة أمل في عين طفل لايدرك واقعه يبتسم للكاميرا وعيناه لاتخلو من وميض يبشر بأنَّ القادم أجمل، فحملت قصائده ضمائر المتكلم، المخاطب، الغائب، ويراها ضمائر لغوية بالظاهر إنَّما تكون وجهاً ضميرياً حياً، يحتم عليه نقل المشهدية بأمانة ويوثقها للأجيال القادمة لحوار ذاتي لم ينجزه بعد.
السابق