الملحق الثقافي-آمنة بدر الدين الحلبي – جدة:
أدركتُ الهلال حين خرجَ القمرُ من ظلِّ الشمس، وانعكسَ ضوؤها على الجزء الخارج من القمر.
كان وضاحاً يبرقُ في سماءٍ صافيةٍ واسعة الأرجاء نظرًا لـ حدوث الاقتران بعد المحاق مباشرة.
كان الليل يعسعسُ رويدًا رويدًا، عندما انتفضت شجرةُ الرند وتُعرف بـ شجرة الغار أو أوراق موسى، بدأتْ تنثرُ عبقها على العاشقين، فتنعشُ قلوبهم، وتعطّرُ أرواحهم، استعدادًا للقاء أسطوري.
رحتُ أحومُ حول تلك الشجرة الطيبة الرائحة، والمقدسة عند الأقدمين، والتي ملأتْ الأجواءَ بعبقها كـ أنثى فرضتْ وجودها على الكونِ، وما ملكتْ في تلك اللحظة غير تراتيل صوفية لـ تجعلُ معاشر القضبان في حضرة مسائية، تؤدي صلوات حبها الرومانسي، وتمارسُ عشقها الأبدي في فضاءٍ واسع الأرجاء.
سبقني بصري حيث تستأمنُ حوريةَ الليل جلستها، ربما أسمعُ صهيلَ أنفاسها تملأُ سكناتٍ من فراقِ حبيبٍ ومنزلِ، أو ربما أشمُّ عطر أنوثتها من عبقِ شجرة الرند، أو ربما أراها بفستانها الملائكي من خلال هلال قمري طل علينا بنوره الجميل لـ يفسح المجال أمام حورية تتألق كل أسبوع في حديقة القصر.
نظراتي تلاحقُ مجرياتِ الكون، وتتنقلُ من هلالٍ قابع وحيد في سمائه، وأنا وحيدة في أرضي، أستجدي منه الجمال والنور، والصداقة في حلكة الليل الدامس، رغم أخبار الوطن التي تلامس روحي وتؤلمني، لكنني دائمًا أرفع تراتيل الدعاء في هذا الليل عله يزيح حلكة الحرب عن وطن كان الحب في أحداقه أنيق.
وبين تأملٍ للكون، وتسبيح في ملكوت الله، رجع خطى عند الإياب، استدرتُ قليلاً وكأني أرى شجرة الرند تزحف نحوي بقدها المياس، وبلونها السندسي الجميل كـ بساط من الجنان، ناثرة عبقها الجميل.
إنها حورية الليل تتهادى بفستان كأنه ورق الرند، وتعصب شعرها بـ أغصان شجر الرند، وعلى رأسها إكليل غار، إنه إكليل المحبة والسلام، كما كان يفعل هامات القياصرة والأبطال في منذ فجر التاريخ، ولأن شجر الغار ذُكرَ في الأساطير اليونانية والإغريقية عندما كان زيوس كبير الآلهة اليونانيين يضع إكليل غار على رأسه، تيمنًا بآلهة الإغريق، لجأت حورية الليل لاستخدام ورق الغار إكليل محبة وسلام، علّ حبيبها ينهي الحرب ويعود إليها سالمًا غانمًا.
رائحة عطر الرند تفوح من حورية الليل، استحمت بمائه، ودهنت بشرتها بزيته كما كانت تفعل نساء شهيرات مثل كليوباترا والملكة زنوبيا للحفاظ على بشرتهن حية نضرة، وعلى عافية شعرهن وصحته.
أومأت برأسها، وعلى شفتيها ابتسامة حرير، وفي عينيها وقبُ دررِ الحب والجمال، تحكي أساطير عشقٍ، وملاحم وفاء، مشغولتين بحياكة ثوب المحبة لـ تهديه لمن تحب.
قلت لها: السعادة تغمركِ هذه الليلة.
قالت: ضحكته المعهودة عبر الأثير تصلني كمعزوفة عشق.
قال: أنا رجلٌ يعرفُ في لغةِ العيون، ويقرأ أبجديتها، وأنتِ أجمل من أن يُحتمل، بـ عينيكِ وجدتُ شيئًا مدهشًا، كما انتصاراتي في الحرب تدهشني مع الرفاق.
قلتُ: إنه لا يحبك فقط…. بل يعشقكِ يا حورية الليل.
قالت: يعشقني أجل ويقرن عشقه مع عشق الوطن، ضحكته رنتْ في قلبي، ورسمت خطًا بيانيًا على مفاصل جسدي، وصوته عزف أجمل الألحان، على سلم موسيقي كانت حروفه الأبجدية الأولى من مغنية القصر أورنينا.
قال: القلوب حين تعشق، تقرأ ما بداخلها.
قلت: كلامه معسول، ممزوج بـ محبة لا متناهية، بماذا أجبت؟؟؟
قالت: أيها العاشق المجنون!!! تركتَ روحي تسبحُ في فضاءات عشقكَ، رغم رائحة البارود التي تفوح من ذراعيك، وصوت القنابل التي ترددها رئتيك.
قال: وأنا سأكون حلمكِ سيدتي، وسعيدٌ أن أشارككِ عشقكِ، لكن وطني الجميل ينادي كل شريان بجسدي لأكون مستعدًا، وها أنا أسرق بضع سويعات لأراك في عتمة الليل، وأقرأ ما في عيونك الجميلة.
قالت: ماذا قالت لك عيني من بين أفق الهمس؟؟
قال: عيناكِ وقسمُ الحب بعضًا من خطايانا، عيناكِ قالتْ لي الكثير، وليتها تقول أكثر، فأنا في شوقٍ لـ سماعها.
قلت: هي ملحمةُ عشقٍ صوفيٍ، أم ضربٌ من الخيال؟ في ظل حرب بشعة أشعل أتونها شذاذ الآفاق، وزعماء الحروب، وطواغيت الإجرام ليستولوا على مقدرات الشعوب.
قالت: إلى متى سنظل رهن هؤلاء القتلة رهن القتل والاغتصاب وسفك الدماء.
قلت: يا حورية الليل هل تذكرين أبي فراس الحمداني ودفاعه عن حلب الشهباء مع قومه ضد الروم، ووقع في الأسر مرتين من أجل الوطن.
قالت: هو ترك حبيبته؟
قلت: عشق الحبيبة لا يرقى لعظمة الوطن، حين يمتشق الفارس سيفه يظل الوطن بين ثنايا الروح، فكيف بفارس بني حمدان وأميرها وهو يزود عن الحمى.
قالت: هو شاعرهم أليس كذلك؟
قلت: أجل يا حورية الليل وفارسهم الصنديد، فقد كتب لحبيبته من الأسر أبلغ القصائد وأكثرها وقعًا جميلًا في النّفس مستخدمًا عنصر الحوار، استحضرها في مخيّلته وأخذ يلومها مفتخرًا بنفسه مُعاتبًا إيّاها، مصورًا لها حزنه وقهره في غيابها، فقد أهلكت فؤاده.
ومَا كانَ للأحزانِ لَوْلاكِ مَسْلَكٌ
إِلى القَلْبِ لكنَّ الهَوَى لِلبَلَى جِسْرُ
وَتَهلِك بَينَ الهَزلِ وَ الجِدّ مُهْجَةٌ
إذا ما عَادَاها البَيْنُ عَذّبَها بِها الفِكْرُ
ضرباتُ قلبها سبقت صوتها، حين سمعت عشق أبي فراس وحزن البعد.
أخذت تتحدثٌ عنه، وعن الحرب بآن واحد، وصهيل روحها تعانقُ أرجاء الكون، تشتاق له معلنة عليه الحب والحرب بآن واحد.
حين تلفظُ اسمه يشع بريقًا طفوليًا من عينيها، ويرقصُ قلبها طربًا، وتنتشي روحها الحزينة فتلفظ كلمات بؤس على حظها وتنهال على حرب بشعة سرقت منها سعادتها.
قطعت عليّ تأملاتي.
وقالت: في تلك الليلة من لقائنا الأسطوري ترنّم بشعر لـ أبي الطيب المتنبي وقال:
لعَيْنَيْكِ ما يَلقَى الفُؤادُ وَمَا لَقي…
وللحُبّ ما لم يَبقَ منّي وما بَقي…
وَما كنتُ ممّنْ يَدْخُلُ العِشْقُ قلبَه…
وَلكِنّ مَن يُبصِرْ جفونَكِ يَعشَقِ…
قلت: أهو طبيب عيون؟؟ أم عالم فلكي يقرأ في لغة العيون؟؟؟ هو عاشقٌ إذن، أحبكِ مثلما أحبَّ المتنبي حبيبته عندما قال:
أحبك حبيْن حب الهوى…
وحبًا لأنك أهل لذاكَ….
قالت: ما دمتُ أهلاً لـ ذاك العشق يا زائرة الليل، لماذا يطلب مني الابتعاد؟؟؟ ويخاف علي الاحتراق!!! إن كان لا بد من الاحتراق!!! نحترق معًا في أتون حرب بشعة حطت أوزارها في وطننا الحبيب من صنيعة دول لا تعرف لغة الحب ولا تعرف العزف عليه.
قلت : هي الحرب يا حورية الليل فُرضت علينا، ومما زادها اشتعالاً بعض مصاصي الدماء الذين يشرعون للنهب والسلب ويصبحون فيما بعد أثرياء حرب قذرة، لكن اتفقنا أن نلتمس له الأعذار، والشاعر يقول:
ما بين طرفة عين وانتباهتها…
يغير الله من حال إلى حال…
اطمئني من كان قادراً على هذا العشق، لا يستطيع الابتعاد عن حبيبته.
قالت: من يحب لا يبتعد مهما كانت الظروف!!!!
قلت: وإن كان بالأسر كما أبي فراس الحمداني الذي كان يكابد الشوق واللوعة، وقد كسا قصائد غزله حللاً من البلاغة، وجرّد من نفسه شخصًا آخر حين قال آراكَ!!!! محاولاً إخفاء دمعه ولوعته فهو أميرٌ وشاعرٌ، ومن وجهاء آل حمدان، لا تُذاع أسراره ولا تدمع عيناه علنًا، فالسّجن مأوى الآلام والآمال، تجري عبراته فلا يستطيع البوح بها إلا في ظلام الّليل، فالسّكينة تسمح للذّات الدّاخلية بأن تستيقظ، وحين استيقظت عبر بأروع وأصدق صورة.
أراكَ عَصيّ الدّمعِ شيمتُكَ الصّبرُ
أما للهَوى نَهيٌ عليك ولا أمر
نَعَمْ أنا مُشتاقٌ وَعِنْدِي لَوْعَةٌ
وَلَكنّ مِثْلي لا يُذاعُ لَهُ سِرُّ
إذا الّليلُ أضْوَاني بَسَطتُ يدَ الهَوى
وَأذْلَلتُ دَمعًا مِنْ خَلائقِهِ الكِبْرُ
تَكادُ تُضيىءُ النّارُ بينَ جَوانِحي
إذا هِيَ أذْكَتها الصّبابةُ والفِكْرُ
قالت: كل هذا العشق بين جدران السجن؟؟؟
قلت: أجل يا حورية الليل!
قالت: متى سنحرر الحب ونقضي على حرف الراء؟؟؟
قلت: حين ننتصر على الأعداء كما انتصر الحمدانيون على الروم، نبقى على قيد الحب.
تنفست الصعداء بقلب جريح، تعيد حديثه.
قالت: في تلك الليلة ومع الهزيع الأخير من الليل.
قال: أنتِ سمفونية حبٍ رائعة، أحلم بموسيقا هادئة ومراقصتكِ حتى همس الفجر.
قالت: أتراقصني على أنغامِ سمفونية عصفوريْن جميليْن من عصافير الحب.
قال: هو حلم ليتني أفعل، وليته يتحقق، لأنني أتخيلكِ بـ فستان أسود طويل.
قالت: أثوابي منذ أعوام ترقدُ نائمة في أحضان دواليبها.
قال: الليلة وكل ليلة أثوابك، وأنتِ، وروعتكِ، لي وحدي، رأفة بي.
قالت: بأي ثوبٍ من الأثواب ألقاكَ؟
ضحك وقال: أنتِ الأروع والأجمل في كل الأثواب يا سمفونية الحب والمحبة، فاصبري حتى تضع الحرب أوزارها.
قالت: لكنني مشتاقة له اشتياق العاشق العنيد.
قلت: حين حملت له الريح في الليل رسائل من المحبوبة، لم يشعر بها غيره، فهو أسير الجسم في بلدةٍ وأسير القلب في أخرى .
إرثِ لصَبٍّ فيكَ قَدْ زِدْتَهُ على بلايا أسْرِه أَسْرا
قَدْ عَدِمَ الدّنيا ولذّاتِها لَكنّهُ ما عَدِم الصّبْرا
فَهُوَ أسيرُ الجِسْمِ في بلْدَةٍ وَهُوَ أسيرُ القَلبِ في أُخْرى
وهمت لـ تتابع الحديث قاطعتها، امتد لسان الصباح وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
العدد 1215 – 26 – 11 -2024