يبدو وكأن الألعاب الإلكترونية قد فقدت شيئاً من بريقها، وأصبحت مجرد وسيلة للهروب من واقعٍ ما، أو لتزجية وقت لا طائل منه، بعد أن تنبهنا إلى آثارها السلبية على حياة الأطفال، وربما الكبار أيضاً، من الناحيتين النفسية، والعقلية، وتضاف إليهما أضرارها الصحية نتيجة الجلوس الطويل وراء الأجهزة لممارستها، وبعد أن أصبحنا نتوجس من كل جديد يتصدر لائحتها الطويلة، والتي تطول أكثر فأكثر نتيجة التطور التقني المتسارع.
لكن ما إن ننظر جيداً إلى مسمى (البقاء على قيد الحياة) حتى نكتشف الوجه الآخر المشرق لهذا العالم الرقمي، فما هي هذه الألعاب التي أسهمت بالفعل في إنقاذ سمعة الألعاب الإلكترونية عموماً؟.. إنه نوع مختلف منها يعتمد مبدأ مواجهة اللاعب لتحديات متعددة في سبيل أن يبقى على قيد الحياة، إذ إنها تضعه في مواقف الصراع من أجل البقاء فتجعله يستنفر طاقاته البدنية، والعقلية بطريقة غير مسبوقة، فالتخطيط، والاستراتيجية، والتنبؤ باحتمالات المخاطر، كلها مهارات أساسية يكتسبها اللاعب من خلال هذه التجربة الإلكترونية الشيقة، أليست الحاجة أم الاختراع كما يقال؟
هذه الألعاب تفرد مساحة واسعة للإبداع من خلال البحث عن طرق مبتكرة للخلاص، ذلك لأنها تفرض على اللاعب مواجهة تحديات حقيقية تتطلب منه المثابرة، والصبر، والقدرة على التكيّف.. لتتمثل فوائدها بالتالي في تنمية مهارات التفكير، وتعزيز الثقة بالنفس، ومن ثم القدرة على حل المشكلات التي تتطلب حلولاً جديدة للتقدم في مراحلها.
لقد ساهمت بالفعل ألعاب البقاء على قيد الحياة في إنقاذ سمعة الألعاب الإلكترونية بشكلٍ عام من خلال إثبات أن هذه الألعاب كأحد أبرز الظواهر التي استقطبت اهتمام الصغار، إنها ليست مجرد وسيلةٍ للترفيه، والتسلية، بل هي أدوات تعليمية قيّمة ذات بعدٍ تربوي، وتنموي، تسهم في بناء شخصية الطفل، وإعداده للحياة.. فالطفل الذي يخوض غمار هذا النوع من الألعاب، يكتسب مهاراتٍ حياتية ثمينة كالتخطيط، والتحليل، وحل المشكلات، كما أنه يتعلم كيفية إدارة المخاطر، والتعامل مع المواقف الضاغطة بهدوء، ورباطة جأش، وتحليل الوضع بشكل استباقي، والتخطيط للخطوات التالية بدقة، وهذا بدوره ينمي قدراتهم على اتخاذ القرارات السريعة والحكيمة، وهذه كلها صفات تفيده كثيراً في مراحل عمره اللاحقة.
ولا ننسى أن تنافس الأطفال في هذه الألعاب يحفزهم على التفوق، والإبداع، مما يجعلهم يطورون مهاراتهم الحركية، والإدراكية بشكل ملحوظ، وهذا بدوره ينعكس إيجاباً على أدائهم الأكاديمي، والاجتماعي في المستقبل، كذلك فهي تساهم في تعزيز التعاون والتواصل بين الأصدقاء، فعندما يواجه اللاعبون الصغار تحديات صعبة، يندفعون للعمل بشكل جماعي من أجل التغلب عليها وهذا يعزز بدوره روح الفريق لديهم، والاعتماد المتبادل فيما بينهم، مما قد ينعكس إيجاباً على علاقاتهم الاجتماعية في واقع الحياة.
عندما سقطت إحدى الطائرات فوق غابات الأمازون وتحطمت مات كل مَنْ كان على متنها، ولم يبق من ركابها على قيد الحياة سوى طفلة كولومبية مع إخوتها الثلاثة الصغار، ليمضوا ستة أسابيع من الضياع في تلك الغابات المطيرة المخيفة التي تكثر فيها المفترسات قبل العثور عليهم، وإنقاذهم.. والفضل يعود في هذه التجربة التي لم تكن على صفحات الافتراض بل على أرض الواقع أقول يعود إلى لعبة البقاء على قيد الحياة التي تدرّبت تلك الفتاة الصغيرة من خلالها كيف تنقذ نفسها من محنةٍ، وواقعٍ خطِرٍ تواجهه في مسار هذه اللعبة الإلكترونية.
علاوة على ذلك فإن مثل هذه الألعاب توفر للصغار مساحة آمنة للتعبير عن مشاعرهم، وتفريغ توترهم، ففي العالم الافتراضي يجدون متنفساً لهم للتعامل مع مخاوفهم التي قد لا يشعرون بالراحة للتحدث عنها في الحياة الواقعية، وبالتالي، تصبح هذه الألعاب بمثابة وسيلة للتعامل مع التحديات العاطفية والنفسية بطريقة صحية، وبنّاءة.
ومن المفارقة أن نطالب بابتكار مزيد من الألعاب الإلكترونية على غرار لعبة (البقاء على قيد الحياة) بعد أن اتخذنا من تلك الألعاب عموماً مواقف عدائية بحجة أن آثارها السلبية تفوق الأخرى الإيجابية، إلا أن مثل هذه الألعاب التي تسعف بحلول الإنقاذ في بيئة افتراضية آمنة تجعلنا نفعل.