الاقتصاد السوري في ميزان الأمم المتحدة.. عملة متدهورة وانكماش كبير وفقر مدقع.. و”التعافي” بإصلاحات جريئة ودعم دولي سريع
الثورة – ناصر منذر:
خلَّف النظام البائد دماراً كبيراً في الاقتصاد السوري، نتيجة حجم الفساد الكبير الذي كان مستشرياً، وقد ساهمت سياسات ذاك النظام وإدارته الفاشلة، وتسخيره إمكانيات الدولة لتثبيت حكمه، وإملاء خزائنه من أموال الشعب، في تفاقم الأزمة الاقتصادية، والتي أثَّرت بدورها على الحياة المعيشية للمواطن، ووضعته تحت خط الفقر المدقع.
واليوم تواجه الإدارة الجديدة عقبات جسام على طريق إعادة انتعاش الاقتصاد مجدداً، وسبق لرئيس حكومة تصريف الأعمال محمد البشير، أن أشار إلى أن سوريا حالياً ليس لديها نقد أجنبي، ويتوفر لديها فقط العملة المحلية، وأن النظام المخلوع ترك خلفه إرثاً سيئاً من الفساد الإداري، وأن الوضع المالي للبلاد سيئ للغاية.
– تدهور في زمن النظام المخلوع:
وتأكيداً على ما سبق، كشف تقرير أممي أن الاقتصاد في سوريا سجل انكماشاً بمقدار الثلثين تقريبا ولاتزال عملتها في تدهور مستمر فيما يعيش نصف سكانها الآن في فقر مدقع.
التقرير الذي أعدته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) بالتعاون مع مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) تحت عنوان “سوريا عند مفترق طرق: نحو مرحلة انتقالية مستقرة”، سلط الضوء على تدهور الواقع الاقتصادي السوري في زمن النظام المخلوع، وأشار إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 64 بالمئة منذ عام 2011 حتى 2024، ولكنه طرح بصيص أمل بإمكانية التعافي في حال نُفذت إصلاحات جريئة وحظيت البلاد بدعم دولي سريع.
– معدل ضخم مرتفع:
ووفق بيان صحفي صادر عن الإسكوا، ونقلته وكالة أخبار الأمم المتحدة، لفت التقرير إلى أن الليرة السورية فقدت حوالي ثلثي قيمتها خلال عام 2023 وحده، ما رفع معدل التضخم الاستهلاكي إلى 40% عام 2024.
موضحاً في الوقت ذاته أن الصادرات التي كانت في السابق محركاً أساسياً للاقتصاد، باتت تقتصر الآن بشكل كبير على السلع الأساسية مثل الغذاء، في حين شهدت التجارة في السلع الصناعية تراجعاً كبيراً.
– حاجة ملحة لإعادة البناء:
الأمينة التنفيذية للإسكوا رولا دشتي قالت في هذا السياق: “تعاني سوريا من أزمة ممتدة منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً، وكل جانب من جوانب الحياة فيها قد تآكل.. يؤكد تقريرنا على الحاجة الملحة لإعادة بناء البلاد، ليس على مستوى البنية التحتية فحسب، بل أيضا من خلال تعزيز الثقة والحوكمة والتماسك الاجتماعي”، وهذا بدوره يشير إلى حجم التركة الثقيلة التي خلفها النظام البائد، ويعطي صورة واضحة لحجم التحديات الكبيرة التي تواجهها الإدارة الجديدة على هذا الصعيد.
وبحسب التقرير، فإنه إضافة إلى الانهيار الاقتصادي، تبقى الأوضاع الإنسانية في سوريا كارثية، إذ يحتاج نحو 16.7 مليون شخص – ما يزيد عن ثلثي سكان البلاد – إلى أحد أشكال المساعدة الإنسانية، وهناك سبعة ملايين نازح داخليا، فيما تستمر معدلات سوء التغذية المزمن في الارتفاع.
ويصنف التقرير سوريا في المرتبة 158 من أصل 160 دولة في دليل الإسكوا لتحديات التنمية في العالم لعام 2024، مشيراً إلى مشكلات متجذرة في الحوكمة، والتدهور البيئي، وانتشار الفقر بشكل واسع.
– أطول الأزمات الإنسانية:
وقالت دشتي: “هذه واحدة من أطول الأزمات الإنسانية في العالم، والنتائج تشير بوضوح إلى إمكانية تفاقمها إذا لم تُتخذ خطوات عاجلة. وتعافي سوريا لا يقتصر على إعادة إعمار المدن، بل يتطلب الاستثمار في الإنسان، واستعادة الثقة بالمؤسسات، وتهيئة الظروف التي تُمكّن العائلات من استعادة حياتها الطبيعية”.
مقابل ذلك، يطرح التقرير سيناريو للتعافي يشمل إعطاء الأولوية لإعادة الإعمار، وتنفيذ إصلاحات الحوكمة، وتأمين مساعدات دولية كافية. لافتاً إلى أنه في ظل هذه الظروف، يمكن أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بمعدل 13% سنويا بين عامي 2024 و2030.
ومع ذلك، فإن هذا النمو لن يرفع الناتج الإجمالي للبلاد سوى إلى 80% من مستواه قبل الحرب بحلول نهاية العقد، في حين سيصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى نصف مستوى عام 2010.
وبحسب خبراء الأمم المتحدة، فإن استعادة الناتج المحلي الإجمالي الكامل لما قبل الحرب ستتطلب ست سنوات إضافية من نمو ثابت بنسبة 5%، بما يدفع الإطار الزمني إلى عام 2036.
ولم يتجنب التقرير تناول السيناريوهات التي تبقى فيها آفاق سوريا قاتمة.. فاستمرار عدم الاستقرار، وضعف الحوكمة، وعدم كفاية التمويل، جميعها عوامل يمكن أن تؤدي إلى ركود اقتصادي دائم وفقر مستمر.
ويُبرز التقرير أيضا، تأثير الوضع في سوريا على الدول المجاورة، فاستقرار سوريا يمكن أن ينعكس إيجابياً على دول مثل الأردن ولبنان، مع إعادة فتح الحدود واستعادة طرق التجارة، بما قد يؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي المشترك لتلك الدول.
– الدعم الدولي ضرورة:
ويدعو التقرير إلى إصلاحات شاملة في الحوكمة، وتعزيز دور القطاع الخاص، وتقديم مساعدات دولية تتجاوز الإغاثة الطارئة لتشمل دعماً ممنهجاً لإنعاش اقتصادي شامل ومستدام.
كما يؤكد على الحاجة إلى إعادة تأهيل البنية التحتية، وتطوير قطاعات الزراعة، والصناعة، والمالية، ضمن إطار سياسات شاملة تهدف إلى الحدّ من احتمالية تجدّد النزاعات.
وأوصى التقرير الأممي بضرورة إعادة بناء الثقة في المؤسسات السورية من خلال تعزيز جهود المصالحة، واعتماد تدابير المساءلة، وتنفيذ إصلاحات في قطاع الأمن، وهي خطوات يعتبرها الخبراء الأمميون ضرورية لتحقيق سلام دائم، كما يشدد التقرير على أهمية الدعم الإقليمي والدولي، بما في ذلك التخفيف الهادف للعقوبات وتعزيز الجهود الاقتصادية المشتركة.
يشار إلى أن الإسكوا هي إحدى اللجان الإقليمية الخمس التابعة للأمم المتحدة، تعمل على دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستدامة في الدول العربية، وعلى تعزيز التكامل الإقليمي.