الثورة – ناصر منذر:
فور سقوط النظام المخلوع، سرعان ما تم الكشف – بالأدلة والبراهين- عن سجل حافل بالإجرام والقتل الجماعي للمعتقلين في سجون ذاك النظام، وأميط اللثام أيضاً عن سلسلة من الانتهاكات الحقوقية والإنسانية الممنهجة بحق المعارضين للنظام، ليثبت بذلك صحة عشرات آلاف التقارير التي وثقتها منظمات حقوقية وإنسانية، طوال سنوات الحرب الماضية، ويكفي ما نقلته شاشات التلفزة العربية والدولية لمشاهد من داخل مراكز الاعتقال والاحتجاز التعسفي، والكشف عن أبشع وسائل التعذيب فيها، ليدرك المرء حجم المآسي والمعاناة التي تكبدها المعتقلون، ومنهم الآلاف قضوا تحت التعذيب، ومنهم مازال مصيرهم غير معروف حتى هذه اللحظة، وهم في عداد المفقودين.
– جرائم ضد الإنسانية
في تقرير أممي جديد، استند إلى أكثر من ألفي إفادة من الشهود، بما في ذلك أكثر من 550 مقابلة مع ناجين من التعذيب، قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا التابعة للأمم المتحدة إن استخدام الحكومة السورية السابقة للاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري بشكل منهجي لقمع المعارضة “يشكل جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ويمثل بعضاً من أسوأ الانتهاكات المنهجية للقانون الدولي التي ارتكبت خلال النزاع”.
تقرير اللجنة، الذي نشرته وكالة أخبار الأمم المتحدة، مساء أمس، وجاء تحت عنوان “شبكة عذاب: الاحتجاز التعسفي والتعذيب وسوء المعاملة في الجمهورية العربية السورية”، كشف عن تفاصيل مروِّعة حول أنماط التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة واللاإنسانية التي مارستها قوات الدولة السابقة على الرجال والنساء والأطفال المحتجزين، بما في ذلك “الضرب المبرِّح، والصعق بالكهرباء، والحرق وقلع الأظافر، وإتلاف الأسنان، والاغتصاب والعنف الجنسي.. بما في ذلك التشويه وفرض أوضاع منهكة لفترات طويلة والإهمال المتعمد والحرمان من الرعاية الطبية وتفاقم الجروح والتعذيب النفسي”.
ويأتي التقرير بعد ما زارت اللجنة المقابر الجماعية ومراكز الاحتجاز السابقة التابعة للدولة في منطقة دمشق – بما في ذلك سجن صيدنايا العسكري، وفرع المخابرات العسكرية 235 (فلسطين) وفرعا المخابرات الجوية في المزة وحرستا – بعد سنين من منعها من الوصول من قبل السلطات السورية السابقة.
– معاناة لا يمكن تصورها:
وأكدت اللجنة أن مارأته هناك يتطابق مع الأوصاف التي قدمها مئات الناجين والمنشقين إلى اللجنة على مدار الأربعة عشر عاماً الماضية، مؤكدة أن زنزانات العزل الصغيرة التي لا نوافذ لها في الطوابق السفلية “لاتزال مليئة بالروائح الكريهة وتكشف عن معاناة لا يمكن تصورها حينما بدأت اللجنة تحقيقاتها الأولى في المواقع”.
وقالت اللجنة إن الإطاحة بالحكومة السابقة وإطلاق سراح السجناء من غرف التعذيب التابعة لها هو أمر لم يكن من الممكن تصوره قبل شهرين فقط.
وهنا يمكن الإشارة إلى أنه في عام 2017 كشف تقرير تحت عنوان “المسلخ البشري” الذي أصدرته منظمة العفو الدولية حينذاك، كيف ارتكبت السلطات السابقة في عهد الرئيس المخلوع أعمال القتل، والتعذيب، والاختفاء قسري، والشنق الجماعي، والقتل الجماعي للمحتجزين في سجن صيدنايا العسكري، وهو أسوأ مركز احتجاز سمعةً في سوريا – وذلك في إطار هجوم ممنهج وواسع النطاق ضد المدنيين وصل إلى حد الجرائم ضد الإنسانية.
– منعطف حاسم:
وبالعودة إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، قال رئيسها باولو بينهيرو: “إننا نقف عند منعطف حاسم. ويمكن للحكومة الانتقالية والسلطات السورية المستقبلية أن تضمن الآن عدم تكرار هذه الجرائم أبدا. ونأمل أن تساعد النتائج التي توصلنا إليها بعد ما يقرب من 14 عاماً من التحقيقات في إنهاء الإفلات من العقاب لهذه الأنماط من الانتهاكات”.
لكن اللجنة شددت على أن معاناة عشرات الآلاف من العائلات التي لم تعثر على أقاربها المفقودين بين السجناء المفرج عنهم لاتزال مستمرة، مؤكدة أن اكتشاف مقابر جماعية إضافية قد دفع العديد من العائلات إلى استنتاج الأسوأ.
– حماية الأدلة:
وسلطت اللجنة الضوء في تقريرها على الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لحماية الأدلة والمحفوظات ومواقع الجرائم، بما في ذلك المقابر الجماعية، إلى أن يتمكن الخبراء من الكشف عليها وإجراء عمليات استخراج الرفات للقيام بفحوصات الطب الشرعي عند الحاجة.
وقالت عضوة اللجنة لين ولشمان: “بالنسبة للسوريين الذين لم يعثروا على أحبائهم بين المفرج عنهم، قد تكون هذه الأدلة، إلى جانب شهادات المعتقلين المفرج عنهم، الأمل المنشود لكشف الحقيقة حول أقاربهم المفقودين. إننا نثني على السلطات الجديدة لالتزامها بحماية المقابر الجماعية والأدلة، ونشجع على بذل المزيد من الجهود، بدعم من المجتمع المدني السوري والجهات الفاعلة الدولية ذات الصلة”.
وقالت اللجنة إنها تخطط لإجراء تحقيقات معمقة في الأشهر المقبلة بعد أن سمحت لها حكومة تصريف الأعمال الجديدة بالوصول إلى البلاد لأول مرة منذ 2011، “وبعد أن أتيحت لها إمكانية الوصول غير المسبوق إلى المواقع والناجين الذين لم يعودوا يخشون الانتقام بسبب تقديم شهاداتهم”.
من جانبه، قال عضو اللجنة هاني مجلي إنه يأمل أن يرى “مبادرات عدالة وطنية ذات مصداقية يمكن أن يلعب فيها الناجون والعائلات دوراً محورياً”، مؤكداً استعداد اللجنة للمساعدة إلى جانب جمعيات حقوق الإنسان والأسر السورية والشركاء الأمميين.
وعطفا على ذلك، كانت منظمة العفو الدولية قد أوضحت في تقرير سابق لها، أنه “بالنسبة لأسر عشرات الآلاف من المختفين قسراً في سوريا، فإن إطلاق سراح المحتجزين من السجون العديدة في البلاد، بما فيها سجن صيدنايا العسكري، يرفع من احتمالية معرفتها أخيراً مصير أحبائها المفقودين، بعد عقود من الزمن في بعض الحالات.
كما يجب بذل محاولات لجمع أدلة على أي جرائم ارتُكبت، قديماً أو حديثاً، والمحافظة عليها قدر المستطاع في هذه الظروف لضمان المساءلة.
ومن المهم للغاية الحفاظ على سجلات السجون وغيرها من الوثائق، لأن من شأن هذه المعلومات أن تشكل أدلة حاسمة على مصير المختفين وأن تُستخدَم في الملاحقات القضائية والمحاكمات المستقبلية على الجرائم المشمولة في القانون الدولي.
– محاسبة المسؤولين:
وكان المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، قد أكد خلال زيارته الأخيرة لسوريا، قبل نحو أسبوعين، أن زيارته إلى سوريا تعد سابقة تاريخية إذ لم يسبق أن قام أي مفوض سامٍ لحقوق الإنسان بزيارة سوريا. وقال إن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان – على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية – عملت بلا كلل على رصد حالة حقوق الإنسان الخطيرة للغاية في سوريا وتوثيقها ونشر العديد من التقارير بشأنها للفت انتباه العالم لها والدعوة إلى تحقيق المساءلة، على الرغم من منعها من دخول البلاد.
ودعا تورك إلى ضرورة محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم الجسيمة لحقوق الإنسان، والتحقيق بشكل كامل في حالات الاختفاء القسري والتعذيب واستخدام الأسلحة الكيميائية وغيرها من الجرائم الوحشية الأخرى وتحقيق العدالة بشكل عادل ونزيه.
#صحيفة – الثورة