الثورة – عمار النعمة :
تعددت الدراسات التي تناولت أعلام النثر العربي بالدرس والتحليل، وقد ظفر كل من ابن المقفع والجاحظ والتوحيدي وآخرين سواهم بالعديد منها، لكنه غاب وراء الأفق أعلام أفذاذ ليسوا بأقل شأن من هؤلاء، وسهل بن هارون واحد من أولئك الأعلام الذين كانوا قدوة يسيرعلى نهجها البلغاء، إذ لُقب لحكمته وأدبه بـ (بُزُر جمهر الإسلام)، وبلغ من بعد الذكر وعلو الصيت مبلغاً عظيماً لا يناله إلا من ذلل له الدهر ركائبه، الأمر الذي حدا الجاحظ على أن يُنسب إليه في بدء حياته العلمية بعض كتبه، ليُقبل الناس عليها ويسارعوا نسخها.
ضمن سلسلة الدراسات من إصدارات اتحاد الكتاب العرب بدمشق لعام 2024، صدر كتاب جديد للدكتور قحطان صالح الفلاح حمل عنوان “سهل بن هارون.. حكيم الأدباء وأديب الحكماء”.
يلقى هذا الكتاب ضوءاً يكشف الحجب عن رائد من رواد البيان العربي وطوداً من أطواده الشامخة، في محاولة لسدّ ثغرة في تاريخ الأدب العربي الذي لم يوفّ شخصية سهل بن هارون حقّها لأسباب كثيرة، فأتى الكتاب خدمة لثقافة أمتنا وأدبها ورجالها، ومُساهمة في إغناء خبرة أجيالها، ومضاعفة متعتهم، وتعزيز اعتدادهم بالثقافة العربية الأصيلة التي وصلت إليهم من عصور الازدهار والتحضّر والغلبة والمثاقفة.
ضمّ الكتاب أربعة فصول، الأول يطل على العصر العباسي وهو العصر الذي عاش فيه سهل بن هارون، الثاني يدرس التكوين الثقافي ومصادره لدى سهل، والثالث يُعنى بسهل بن هارون المُترسل من خلال تحديد موضوعات رسائله وأنواعها، أما الرابع فقدم صورة عن التأليف النثري العام لدى سهل بن هارون.
وكتب أستاذ النقد والبلاغة وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق الدكتور عيسى علي العاكوب، وهو الذي درّس الدكتور قحطان الفلاح أن مادة الكتاب وعناصره وطريقة المعالجة فيه تنبئ بباحث من أرباب النظر العميق والتبصر الكاشف والرمي المسدد، وأخال أنني لا أجانب الصواب إذا ما قلت إن عمل الدكتور قحطان ينتمي بجدارة إلى ذلك الصنف من التأليف الذي يعلّم العقل أولاُ والأدب ثانياً.
الكتاب مهم فقد شاء المؤلف أن يردد على أسماع النشء أحاديث العبقرية الأدبية المبدعة التي كان لها أن تضع حجارة قوية في أساس صرح البيان العربي في العصور العباسية، فالكتاب يشكل مادة طيبة لقرائه من باحثين مقارنين ومؤرخي أدب ونقّاد وطلبة، تُعين في فهم أفضل لتاريخ النثر العربي والمؤثرات فيه ولنشأة الكتابة الفنية عند العرب ولمستلزمات التثقّف وتكوين الملكة الأدبية.