الثورة – عمار النعمة:
من الجميل أن حركة التوثيق قد نشطت واتجهت لتدوين التراث الشعبي السوري الذي يعد كنزاً جمالياً ومعرفياً، نقف عند كتاب مهم صدر عن الهيئة العامة السورية للكتاب حمل عنوان “في تراث الجزيرة السورية”، تأليف أحمد الحسين، ويتناول في كتابه جوانب من تراث البادية والأرياف في الجزيرة السورية، اتصل محتواه بصورة المجتمع، وحياة الناس خلال مدة زمنية، امتدت منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلى نهايات القرن العشرين، وهو ما يغطّي حياة أربعة أجيال عاشت في تلك الحقبة على وجه التقريب.
ويهدف كما يقول الكاتب إلى إبراز تلك الصورة بأبعادها المختلفة، وتوثيق ما اتصل بها من تراث شفوي مادي، ولا مادي، شمل أنماط العيش وأساليب العمل والإنتاج، وما ارتبط بها من عادات وطقوس وتقاليد وفنون صوتيّة وأهازيج وأفراح وأحزان فضلاً عن اللباس والأزياء، وذلك بغية الحفاظ على ذلك الموروث المعبر عن التراث الثقافي الشفاهي، الذي أنتجته الرّوح الشعبية في مرحلة من مراحل تطور مجتمع الجزيرة، وانتقاله من طور المشافهة، والبداوة والارتحال، إلى طور الكتابة والتدوين والتحضّر والاستقرار.
صون التراث
تعرض الموروث على مدى العقود الماضية إلى الإهمال، والإعراض، بسبب التغيرات التي طرأت على بنية المجتمع والحياة، ناهيك عن غزو الثقافة الإمبرياليّة العالميّة وبرامجها وتقاناتها واستهدافها ثقافات شعوب العالم، واحتلال عقول أبنائه، في مسعى لقطع صلة تلك العقول بتراث أمتها، ما يمهّد لفقدان هويّتها، وملامح شخصيتها، وضياعها في متاهات الاغتراب والاستلاب.
إلى جانب ذلك أخذت تبرز في الآونة الأخيرة، عمليّات قسرية، من بعض الأطراف والجهات التي تسعى إلى الاستحواذ على مكونات ذلك الموروث، وتمعن في تغيير صورته، وطمس حقيقته، والسطو على بعض جوانبه، وإعادة صياغة اتجاهاته، وانتزاعه من سياقاته الاجتماعية والتاريخية، عبر أساليب التعديل والتحريف والتأويل.
من هنا يأتي هذا الكتاب استدراكاً للثغرات، والنواقص والمواقف السلبية التي يشعر بها كل باحث منصف غيور، منحاز للحقيقة، يرى ما يجري من حوله، يدرك مراميه ومخاطره القريبة أو البعيدة، وقد جعل المؤلف الكتاب في أربعة أبواب، ضمت اثني عشر فصلاً، كالآتي:
– الباب الأول: في أنماط العمل وأساليب العيش، وتضمن أربعة فصول، تناولت تراث الرعي، وتقاليد الصيد، والسلاح عدة الرجال، وأهازيج العمل التي اتصلت مادتها بالأشغال الزراعية والرعوية عند الرجال والنساء على السواء.
– الباب الثاني: في الطقوس والعادات والاعتقادات الشعبية، فصلان وقفتُ في أحدهما على طقوس المطر لأهميته في الحـالة الزراعية والرعوية التي قامت عليها حياة أهل الجزيرة، واستعرضت في ثانيهما نماذج من العادات والاعتقادات التي كانت سائدة، وعرضت في الثالث فكرة الموت وما تثيره من أحزان ومآتم في إطار علاقة التناقض والأضداد بين قطبي الحياة، وما لها من تأثير عميق ينعكس في وجدان الناس ومشاعرهم وعلاقاتهم الإنسانية.
– الباب الرابع: وهو في اللباس والزينة، وتضمن ثلاثة فصول، دارت حول لباس الرجال، ولباس النساء، ومن ثم زينتهن، فاللباس والسلاح التقليدي ومظاهر الزينة والحلي، تعد من مظاهر تميز الهوية، وتعكس الثقافة الشعبية، وترسم مناحي التطورات الاقتصادية والحضارية فضلاً عما لها من إيحاءات، ودلالات نفسية واجتماعية.
وخلص الباحث في نهاية الكتاب إلى خاتمة واستنتاجات عامة، وعزّزت المادة العلمية البحثية بالشروح والتحليلات، وبالصور الإيضاحية، ثم وثقت مصادر الكتاب ومراجعه، وفهارس موضوعاته العامة.
وثيقة
يعد هذا الكتاب إضافة مهمة تغني جهود مؤلفه على صعيد دراساته المتعددة في الجزيرة السورية، خلال المدة الزمنية الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين، لما لذلك التراث من مدلولات معرفية وفنية، تتأتى من تنوع مادته، وغنى ألوانه الأدبية، وتعدد أنماطه وأساليبه التعبيريّة، فضلاً عن أهميته كوثيقة لجوانب الحياة والمجتمع، وارتباطه بذاكرة الأمة ومشاعرها الوجدانية وتعبيره العميق عن هويتها الثقافية والحضارية.