العدالة الانتقالية في سوريا: خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار ومنع الانتقام

مما لاشك فيه أن “المعركة الحقوقية” التي أدارتها منظمات المجتمع المدني السوري، إلى جانب مؤسسات دولية ومسؤولين دوليين وجاليات في بلاد الاغتراب، ساهمت بشكل كبير في تقويض قوة نظام بشار الأسد، وحصاره سياسياً واقتصادياً وفقدان شرعيته دولياً، ففرضت العقوبات ولُوحق كبار المجرمين الذين شاركوا أو ساندوا النظام لمواصلة القتل، هذه المعركة لم تنته مع سقوط النظام، وفرار كبار المجرمين، واختفاء المتورطين بالدم السوري.

تجد المؤسسات الحقوقية السورية أن من مهامها متابعة تطبيق “العدالة الانتقالية” التي تضمن استعادة الحقوق وضمان محاسبة المجرمين وكشف الجرائم، وتقف إلى جانب الحكومة في خندق واحد، تُكرس الخبرات التي اكتسبتها والملفات الضخمة التي وثقتها، لملاحقة وضمان محاسبة كل من تورط بالدماء، وعدم الإفلات من العقاب، التي تضمن البناء الصحيح للدولة وحفظ الحقوق.

“الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان” واحدة من المنظمات التي كرست طاقاتها على مدار 14 عاماً لتوثيق ورصد الانتهاكات في سوريا، ليس النظام وحده رغم أنه أكبر المنتهكين، بل القوى الأخرى التي مارست أفعالاً وممارسات بحق المدنيين السوريين، وأصدرت فيها مئات التقارير والبيانات الدورية، لتطرح مؤخراً رؤيتها عن العدالة الانتقالية، وتوصي الحكومة بإنشاء هيئة لـ “العدالة الانتقالية”، لكونها ضرورة وطنية لمنع الانتقام وضمان الاستقرار في البلاد.

حددت الشبكة الحقوقية “الأطر القانونية والمبادئ الأساسية” التي ينبغي أن تستند إليها عملية تشكيل “هيئة العدالة الانتقالية” بموجب قانون يصدر عن السلطة التشريعية، في وقت حذرت من المخاطر التي قد تترتب على اللجوء إلى مرسوم تنفيذي كبديل عن المسار التشريعي.

وبينت أن اعتماد هذا الأسلوب من شأنه أن يهدد استقلال الهيئة ويقوّض فعاليتها، مستشهداً بتجارب دولية في دول مثل (أوغندا وبيرو والمغرب)، وقالت إن الهيئات التي أنشئت بقرارات تنفيذية غالباً ما تفتقر إلى السلطة الفعلية والشرعية المجتمعية، وتعاني من ضعف في قدراتها التحقيقية، ومحدودية في إشراك الضحايا، فضلاً عن تعرضها لتدخلات سياسية تُضعف أداءها وتؤثر على استقلالها.

وفصَّلت الشبكة في “دور المجلس التشريعي”، والذي من المتوقع تشكيله عقب صدور الإعلان الدستوري، هو الجهة المختصة بصياغة القانون التأسيسي لهيئة العدالة الانتقالية، بما يضمن شرعية العملية الانتقالية ويعزز فعاليتها.

ووفق الشبكة الحقوقية، تكمن أهمية هذا الدور في ثلاث وظائف محورية أولها: (ترسيخ الشرعية الأخلاقية من خلال نقاشات تمثيلية تعالج “معضلة التفويض”، وتُجسد مبدأ “كرامة التشريع” الذي تغفله المراسيم التنفيذية، والثاني تحقيق شمولية أصحاب المصلحة عبر آليات تشريعية تضمن مشاركة مختلف الفئات المجتمعية في تصميم الهيئة، بما يعزز من شرعيتها، أما الثالث فهو ضمان سيادة القانون من خلال وضع اختصاصات الهيئة وآليات عملها في إطار قانوني شفاف، بعيداً عن أية صلاحيات استثنائية).

وأكدت أن الاستقلال المالي والإداري عن السلطة التنفيذية يُعد شرطاً أساسياً لضمان فعالية هيئة العدالة الانتقالية وحيادها، وعليه، لذلك رأت أن تأسيس الهيئة يجب أن يكون على أسس تكفل هذا الاستقلال عبر سلسلة من الإجراءات.

تتلخص هذه الإجراءات في “تخصيص ميزانية مستقلة تُقر من قبل السلطة التشريعية، لتجنب التبعية المالية للسلطة التنفيذية، وحماية المخصصات المالية من التخفيضات التعسفية، لاسيما عند إجراء تحقيقات تتعلق بملفات حساسة، مع تمكين الهيئة من التحكم بمواردها التشغيلية دون الحاجة إلى موافقات تنفيذية”

كذلك “ضمان استقلالية قرارات التوظيف، بما يشمل التعيين والترقية والتعويضات، إضافة إلى اعتماد حوكمة مؤسسية ذاتية، تمكّن الهيئة من تحديد هيكلها الداخلي، وإجراءاتها، وأولوياتها، على أن تمتع الهيئة باستقلالية إجرائية تسمح لها باختيار منهجيات التحقيق وتحديد القضايا المستهدفة بحرية كاملة”.

وتطرقت الشبكة إلى “آليات الحماية من التدخل السياسي”، مؤكدة أهمية توفير ضمانات قانونية واضحة تقي الهيئة من التدخلات السياسية، لضمان نزاهتها وحيادها، واقترحت تضمين القانون التأسيسي أحكاماً تنص على: “حماية عملية التعيين” من خلال آلية ترشيح شفافة، تشرف عليها لجنة مستقلة تضم خبراء، قضاة، وممثلين عن الضحايا والمجتمع المدني، شرط توافر النزاهة وعدم التورط في انتهاكات أو الارتباط بأحزاب سياسية.

أيضاً “حماية الحيازة”: أي منع عزل أعضاء الهيئة أو تهديدهم بالانتقام نتيجة قراراتهم، لا سيما في الملفات الحساسة سياسياً، و”حماية الاستقلالية التشغيلية”: عبر منح الهيئة صلاحيات تحقيقية كاملة، ومنع أي تدخل في أعمالها، مع فرض عقوبات صارمة على الجهات التي تعرقل عملها.

وأوضحت الشبكة الحقوقية بأن ينص القانون التأسيسي بوضوح على استقلال الهيئة التام عن وزارة العدل، نظراً لانتمائها إلى السلطة التنفيذية، في وقت أكد على ضرورة تعاون الهيئة مع النظام القضائي الوطني المستقل، مع الحفاظ على استقلاليتها التشغيلية، ويُعد هذا التكامل – برأيها – عاملاً مهماً لنجاح مشروع العدالة الانتقالية، شريطة تجنّب التداخل المؤسسي أو التنافس على الصلاحيات.

لكن تحقيق هذا التكامل يتطلب “ترابطاً مؤسسياً واضحاً” عبر قنوات رسمية بين الهيئة والجهاز القضائي، بما في ذلك إنشاء محكمة خاصة مرتبطة بالقضاء الوطني للنظر في الجرائم الجسيمة، وتمايز وظيفي دقيق بين الهيئة والقضاء، بحيث تقوم الهيئة بإحالة نتائج تحقيقاتها إلى المحكمة دون ازدواج أو تعارض في الصلاحيات، وإطار قانوني متماسك يربط نتائج الهيئة بالإجراءات القضائية والعقوبات المناسبة، مع رفض أي تدابير استثنائية قد تُقوّض الثقة في أعمال الهيئة”.

ونبهت الشبكة إلى أنَّ غياب استقلالية القضاء يُشكل تهديداً خطيراً لمشروع العدالة الانتقالية، لما له من آثار سلبية مثل تقويض المساءلة، وفقدان الشرعية، وتحويل مسار العدالة إلى وسيلة لتحقيق أهداف سياسية بدلاً من تحقيق الإنصاف للضحايا.

وتطرقت إلى “تكوين واختيار الأعضاء” مشددة على ضرورة عكس التنوع العرقي والديني والسياسي في سوريا، وأن تكون “هيئة العدالة الانتقالية” شاملة وممثلة لجميع المكونات العرقية والدينية والسياسية في سوريا، بما يضمن توافقها مع السياق الثقافي والاجتماعي المحلي.

وبينت أن هذا التنوع سيؤدي أدواراً محورية في عمل الهيئة، من أبرزها “تعزيز البحث عن الحقيقة من خلال دمج وجهات نظر متعددة وخبرات متنوعة، ما يتيح فهماً أعمق لانتهاكات حقوق الإنسان بأبعادها المختلفة وتفاوت تأثيرها بين المجتمعات، وبناء الثقة المجتمعية عبر ضمان تمثيل حقيقي لأصوات جميع الفئات داخل الهيئة، الأمر الذي يمنح الضحايا والمجتمعات المتضررة شعوراً بالإنصاف، وتوفير معرفة تنفيذية محلية تساعد في تصميم آليات عدالة انتقالية تتماشى مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية في سوريا”.

وحذرت الشبكة الحقوقية من أنَّ ضعف التمثيل قد يؤدي إلى ما يُعرف بـ “عجز المشاركة” و ”تشويه السرديات”، مما يهدد بفقدان ثقة المجتمع ويقوّض شرعية الهيئة وفعاليتها.

طرحت الشبكة آلية شفافة ومنظمة لاختيار أعضاء الهيئة، من خلال تشكيل لجنة توصية تضم خبراء مستقلين، وممثلين عن القضاء والمجتمع المدني والضحايا، يهدف هذا النموذج إلى ضمان استقلالية الأعضاء وكفاءتهم، وتجنب التعيينات الحزبية أو المسيسة التي قد تضعف نزاهة الهيئة.

وأبرزت الشبكة ثلاث مزايا رئيسة لهذا النموذج: أولها “تحقيق مسافة التعيين” أي الفصل بين القرار السياسي وعملية اختيار الأعضاء، مما يعزز استقلالية الهيئة ويقلل من ضغوط الولاءات السياسية، والثاني “التركيز على الكفاءة” عبر اعتماد معايير قانونية صارمة تضع المؤهلات والخبرة في مقدمة الاعتبارات، بدلاً من الاعتبارات السياسية أو الشخصية، أما الثالث فهو “تعزيز الشرعية بالتعددية الإجرائية” من خلال إشراك عدة جهات في عملية الاختيار، ما يمنح العملية قبولاً مجتمعياً واسعاً وشرعية مؤسسية قوية.

ونوهت إلى ضرورة إجراء مشاورات موسعة تشمل ست فئات أساسية: منظمات المجتمع المدني، الضحايا، الجهات السياسية، المجتمعات المحلية، الشباب والنساء، والداعمين الدوليين، وتهدف هذه المشاورات إلى تجاوز “تحدي الملكية”، وضمان أن تعبّر الهيئة عن تطلعات المجتمع بكل مكوناته، وتُسهم هذه العملية في إثراء مصادر المعرفة، وتعزز الحساسية تجاه السياقات المختلفة، وتُفضي إلى فهم واقعي ومشترك حول صلاحيات الهيئة وحدودها.

وشددت الشبكة على أنَّ نجاح الهيئة يعتمد على تعاون حكومي إلزامي وليس طوعياً، من أجل مواجهة “تحدي المساءلة الأفقية” داخل مؤسسات الدولة. ويشمل هذا التعاون برأيها (“المساعدة الإيجابية” من خلال التزام فعلي من قبل المؤسسات الحكومية بدعم الهيئة، وليس مجرد عدم عرقلتها، كذلك “شهادة المسؤولين” عبر إلزام المسؤولين السابقين والحاليين بالإدلاء بالمعلومات الضرورية لتحقيق العدالة، و”الوصول إلى الأرشيفات” من خلال وضع بروتوكولات تضمن وصول الهيئة إلى الوثائق والسجلات الرسمية ذات الصلة).

وأكدت الشبكة على ضرورة أن يكون هذا التعاون شاملاً وغير انتقائي، مع تطبيق عقوبات صارمة بحقِّ الجهات غير المتعاونة، سواء عبر إجراءات إدارية مباشرة أو أوامر قضائية ملزمة.

ورأت أنَّ ولاية الهيئة يجب أن تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، لتحقيق توازن دقيق بين منح الوقت الكافي لإجراء التحقيقات، وتفادي الجمود المؤسسي. وتوفر هذه المدة عدداً من المزايا، منها: “الاستقرار التنفيذي” بما يتيح تخطيطاً منهجياً وتحقيقات معمقة، و”إدارة التوقعات” من خلال مواءمة الوقت المتاح مع حجم المهام الكبرى، كتجميع الأدلة والتحقيق في انتهاكات متعددة.

كذلك “الشمولية الإجرائية” لضمان توثيق متكامل وغير انتقائي للانتهاكات المرتكبة منذ عام 2011 وحتى نهاية 2024، و”الإشراك الفعّال للضحايا” عبر إتاحة الوقت الكافي لتوثيق الروايات والتحقق منها وإدماجها ضمن مخرجات الهيئة.

وقدمت الشبكة مجموعة من التوصيات الرامية إلى ضمان تشكيل هيئة العدالة الانتقالية على أسس قانونية راسخة، أبرزها: “وضع استراتيجية تواصل فعّالة مع الجمهور حول مسار إنشاء هيئة العدالة الانتقالية، مع التأكيد على ضرورة استكمال الإطار الدستوري والحصول على الموافقة التشريعية قبل تشكيل اللجان المختصة”.

وأوصت بتشكيل المجلس التشريعي بطريقة شفافة بعد صدور الإعلان الدستوري، ومنحه صلاحية صياغة القانون الأساسي الناظم للعدالة الانتقالية، وصياغة قانون تأسيسي شامل يستند إلى مشاورات مع الضحايا، ومنظمات المجتمع المدني، والخبراء القانونيين، ويحدد هيكل الهيئة، اختصاصاتها، وآليات عملها، ومعايير اختيار أعضائها، واختيار الأعضاء استناداً إلى معايير الكفاءة والنزاهة والاستقلالية، مع مراعاة التمثيل العرقي والديني والسياسي.

كذلك تخصيص ميزانية مستقلة وكافية للهيئة من خلال إجراءات تشريعية شفافة، بعيداً عن الاعتماد على السلطة التنفيذية، وإنشاء آليات تنسيق رسمية بين الهيئة والمؤسسات القضائية لضمان تبادل الأدلة والمعلومات، مع الحفاظ على استقلالية كل طرف، والتعاون مع منظمات متخصصة في مجال العدالة الانتقالية لتوفير الدعم الفني، مع الحفاظ على ملكية وطنية للعملية، مع تنفيذ برامج توعية عامة تشرح أهداف العدالة الانتقالية، مراحلها، وإطارها الزمني وحدود مسؤولياتها، ودمج العدالة الانتقالية ضمن خطط الإصلاح المؤسسي في قطاعي الأمن والقضاء، لتبني نهج متكامل يعالج إرث الانتهاكات ويمنع تكرارها”.

خاتمة:

وفي الختام، يرسم المشهد السوري مع نهاية حقبة حكم عائلة الأسد التي امتدت لأكثر من نصف قرن، وجود الكثير من التحديات التي تتطلب إرساء أسس متينة وحقيقية لتطبيق العدالة، كمرحلة لايمكن تجاوزها للانتقال من مرحلة النزاع إلى مرحلة الاستقرار وبناء الدولة، مع حجم الانتهاكات الكبيرة، وترقب الشارع السوري بكل فئاته وأطيافه استعادة حقوقهم وفق الأطر القانونية، منعاً للدخول في أتون فوضى الانتقام والتجاوزات الفردية التي ستخلق الفوضى وتؤدي لصراعات داخلية تُنهك الدولة والمجتمع وتُعيق عملية البناء والنهوض.

• أحمد نور الرسلان- كاتب وإعلامي

آخر الأخبار
تحذير أمني عاجل: حملة اختراق تستهدف حسابات WhatsApp في سوريا سوريا تبحث طباعة عملة جديدة...   تبديل العملة بداية الإصلاح أم خطر الانهيار ؟قوشجي لـ"الثورة": النجا... إخماد حريق في وادي الأشعري الذهب يعاود صعوده على وقع ارتفاع الدولار م. الأشهب لـ"الثورة": طحن الكلنكر حل مرحلي لمصانع الإسمنت المتقادمة من الثمانينيات إلى اليوم.. هل ينجح المجلس السوري - الأميركي هذه المرة؟ جامعة حمص تبحث آفاق التعاون الأكاديمي والتقاني مع تركيا الخيول العربية الأصيلة في القنيطرة رمز للأصالة والتاريخ "الفيجة" إنذار لا مركزي إصلاح أبراج التوتر المخربة مستمر بدرعا العدالة الانتقالية في سوريا: خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار ومنع الانتقام "إدلب" ورمزيتها في فكر الرئيس الشرع.. حاضرة في الذاكرة وفي كل خطاب قرار لدعم صناعة الإسمنت الأسود وتحفيز الاستثمار مبادرة مجتمعية لإنارة شوارع درعا المحامي تمو لـ"الثورة": رفع العقوبات نقطة تحول اقتصادية   عميد كلية الحقوق "لـ"الثورة": العدالة الانتقالية لا يمكن تجاوزها دون محو الآلام ومحاسبة المجرمين روبيو يؤكد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب سوريا.. الشيباني: وضعنا بنية تحتية لبناء علاقات استراتيجية... ربط آبار بعد تأهيلها بالشبكة الرئيسية في حماة القمح المستورد أول المستفيدين.. عثمان لـ"الثورة": تراجع الطن 10دولارات بعد رفع العقوبات الخزانة الأميركية: بدأنا خطوات رفع العقوبات عن سوريا