الثورة – علا محمد:
تحولات تقنية غير مسبوقة، برز فيها الذكاء الاصطناعي التوليدي (GAI) بوصفه نقلة نوعية جذرية في المشهد التعليمي العالمي، ويبدو أن سوريا، رغم ظروفها، ليست ببعيدة عن هذا التحول.
مدير المعلوماتية في وزارة التربية، المهندس نجيب سلق، أوضح في تصريح لـ”الثورة” أنه بسبب قدرة الذكاء الاصطناعي التوليدي الفريدة على توليد محتوى جديد وإبداعي غير محدود ببيانات التدريب، سيتيح إمكانيات غير مسبوقة تتجاوز أتمتة المهام الروتينية نحو تخصيص شامل للتجربة التعليمية بما يلبي الاحتياجات الفردية لكل متعلم.
وفي سوريا، تتطلع وزارة التربية والتعليم إلى الاستفادة من هذه التقنيات الواعدة، رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد على مستوى البنية التحتية والموارد.
وتكمن القوة الحقيقية لهذه التقنيات -بحسب سلق- في قدرتها على تحليل كميات هائلة من بيانات الطلاب لتحديد مستوياتهم المعرفية، ما يمكّنها من تصميم مسارات تعليمية ومحتوى فريد لكل طالب، يتكيف مع وتيرة تعلمه، ويقيم نقاط قوته وضعفه، ويقدم ملاحظات وموارد مخصصة.
وفي هذا السياق، يمكن للمعلمين استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنتاج محتوى تعليمي مخصص يناسب مستويات الطلاب المختلفة، ما يساهم في زيادة دافعيتهم للتعلم، كما يمكن للمساعد التعليمي المدعوم بالذكاء الاصطناعي أن يُقدم الدعم المستمر بناءً على اهتمامات وأهداف الطالب الفردية، لمساعدته على تحديد ما يتعلمه، وكذلك أين وكيف؟.
دعم المعلمين لا استبدالهم
أكد سلق أن الذكاء الاصطناعي يساعد في إعداد الخطط الدراسية، تصحيح الواجبات، وتحليل أداء الطلاب، وكذلك في تقييم أعمال الطلاب وتقديم تغذية راجعة مناسبة، وهذا يتيح للمعلمين التركيز على الجوانب الإبداعية والتفاعلية للتعليم، وتقليص الوقت المخصص لأداء المهام الروتينية.
ويؤكد الخبراء أن الذكاء الاصطناعي لا يلغي دور المعلم، بل يجعله ميسراً وموجهاً للأمور، ثم ينتقل إلى معلم للمهارات الأساسية مثل التحليل النقدي، التعاون، الإبداع، ومشاركة الأفكار، ولكن.. رغم الإمكانيات الهائلة، هناك عقبات في الطريق، إذ يواجه تطبيق الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم السوري تحديات متعددة، أبرزها البنية التحتية والوصول، فهذه التقنيات تتطلب بنية تحتية رقمية قوية واتصالاً بالإنترنت، وفي سوريا، لا يزال هناك ضعف في البنية التحتية للاتصالات وتحديات في توفر التجهيزات والبرمجيات المرخصة بسبب ظروف الحصار، كما أن التكلفة المالية العالية للذكاء الاصطناعي التوليدي تشكل تحدياً للمؤسسات التعليمية التي تفتقر للموارد.
ومن التحديات الأخرى كما وصف سلق، الحاجة الماسة لبرامج تدريبية مستمرة للمعلمين والقيادات التربوية حول استخدامات الذكاء الاصطناعي وأخلاقياته، إذ يعاني بعض المعلمين من عدم استعدادهم لاستخدام التكنولوجيا في التعليم لافتقارهم للتدريب اللازم، كذلك يثير استخدام الذكاء الاصطناعي مخاوف تتعلق بملكية البيانات، والموافقة، والخصوصية، وسط انتقادات لكونه يقلل من التفاعل البشري.
خطة وزارة التربية للتوطين
يرى سلق أنه لضمان توافر المحتوى التعليمي المدعوم بالذكاء الاصطناعي بشكل يتناسب مع السياق المحلي السوري، يمكن لوزارة التربية والتعليم السورية اتخاذ عدة خطوات عملية: أولها، تطوير وتوطين المحتوى والتقنيات المحلية، وتعمل الوزارة على “تعريب” وتوطين تطبيقات الذكاء الاصطناعي والمحتوى المستخدم في بنائها، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الثقافية والاجتماعية المحلية في سوريا.
كما تشجع تطوير الخبرات والمواهب المحلية في مجال الذكاء الاصطناعي للتعليم، من خلال الدورات التدريبية الموجهة، ثم يأتي بعد ذلك، بناء البنية التحتية وتعزيز الوصول الرقمي، يقول سلق: “تسعى الوزارة لتوفير البنية التحتية المناسبة، بما في ذلك تحديث البنية التحتية القائمة، وتوسيع سعات الشبكات، للتعامل مع الطلب المتزايد على خدمات البيانات وتوفير اتصال مستقر بالإنترنت، رغم التحديات مثل انقطاعات الكهرباء وضعف الإنترنت”، بالإضافة لذلك، تدريب المعلمين وتأهيلهم.
فوزارة التربية تحاول تقديم برامج تدريب وتثقيف رقمي شاملة للمعلمين حول كيفية دمج الذكاء الاصطناعي بفعالية في الحصص الدراسية كأداة مساعدة تدعم الشرح والتفكير، بدلاً من أن يحل محلهما، ولن تغفل الوزارة ضرورة تكييف المناهج وآليات التقييم، حيث تعمل على تشجيع التعلم الذاتي وتعزيز مهارات التفكير النقدي من خلال أنشطة صفية تشجع على النقاش والتحليل بدلاً من الحفظ والتلقين، كما أن وزارة التربية تعيد النظر في آليات التقييم للطلاب في كل المراحل الدراسية، للتركيز على المهارات المتقدمة في التفكير مثل الإبداع والابتكار.
وفي هذا السياق، أوضح مدير التأهيل والتدريب في وزارة التربية فهد تعلب، أن هناك خطّة لدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في برامج تدريب المعلمين المستقبلية، إلا أن العمل متوقف مؤقتاً ويقول: “حالياً، ما يخص التدريبات متوقف نظراً لتفرغ الجميع للامتحانات العامة”.
وبيّن أنه سيتم العمل على رفع مطالعة تتضمن الخطة في شهر آب عن الربع الأخير من هذا العام، تتضمن خطط التدريبات من المديريات المركزية والفرعية وفقاً للاحتياج التدريبي، بما فيها ما يخص الذكاء الاصطناعي، فقد بدأت وزارة التربية بالعمل بمحور الذكاء الاصطناعي منذ شهر تقريباً حول لمحة عنه من سدّ الفجوة إلى دعم الخصوصية.
وفي إطار الشراكة مع القطاع التقني، يرى المديرالتنفيذي والمؤسس لشركة Tessafold LLC العالمية في مجال تكنولوجيا المعلومات، المهندس خالد عياش، أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في تقليل الفجوة الرقمية بين المناطق الحضرية والريفية، من خلال توفير أدوات مجانية قابلة للتكيف، مثل المنصّات التعليمية الذكية التي تعمل حتى في ظلّ اتصال محدود بالإنترنت، مع تقديم محتوى متساوٍ في الجودة لكافة المستخدمين بغض النظر عن موقعهم الجغرافي، بالإضافة إلى التخصيص اللغوي والثقافي من خلال استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي لترجمة المحتوى إلى لهجات محلية أو توفير إرشادات صوتية للمجتمعات الأمية وأيضاً، تحسين البنية التحتية الرقمية عبر تحليل البيانات لتحديد المناطق الأكثر احتياجاً لتوزيع الخدمات الرقمية مثل مراكز التدريب أو نقاط الاتصال بالإنترنت، وأعطى عياش مثلاً تطبيقياً وهو منصة “DeepMind” التابعة لجوجل التي طوّرت أنظمة ذكاء اصطناعي تعمل على أجهزة منخفضة الموارد، مما يجعلها مناسبة للاستخدام في المناطق الريفية.
تمكين ذوي الاحتياجات الخاصة
يُبرز عياش أهمية الذكاء الاصطناعي في تمكين الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، من خلال التقنيات المساعدة مثل تحويل النص إلى كلام للمكفوفين، أو تحويل الكلام إلى نص للطلاب الصم، كما يحقق التفاعل البصري المتقدّم باستخدام التعرف على الوجوه وحركة العين للتحكم في الأجهزة عبر منصّات مخصصة بواجهات تتكيف تلقائياً مع الإعاقات المختلفة ومثال على ذلك أداة “Seeing AI” من مايكروسوفت تساعد المكفوفين على قراءة النصوص أو التعرف على الوجوه.
ويؤكد عياش على ضرورة الالتزام بالمعاييرالعالمية مثل GDPR للخصوصية وISO 27001 لأمن المعلومات بالإضافة إلى التصميم الآمن الذي يدمج حماية البيانات منذ تطويرالنظام والأهم مراعاة الشفافية بإعلام المستخدمين بنوع البيانات والغرض منها، مع إتاحة خيار الانسحاب، مبيناً أن منصّة “Khan Academy” تستخدم سياسات صارمة لتشفيرالبيانات وتقليل المعلومات الشخصية المخزنة.
تحديات وحلول ممكنة
أوضح عياش أن هناك تحديات فنية تتمثل بخطر اتخاذ قرارات خاطئة بسبب بيانات تدريب غير دقيقة وأيضاً صعوبة دمج الذكاء الاصطناعي في البنى التحتية التقليدية.
أما التحديات الأخلاقية فتكمن بالإنصاف والمساواة في الوصول والمساءلة عند الأخطاء، واقترح عياش لتخطي هذه العقبات إمكانية إنشاء لجان أخلاقية في المؤسسات التعليمية للإشراف، واعتماد إطار حوكمة يشمل الشفافية والمساءلة والعدالة، كما هو في مبادرة “AI4Children” التابعة لليونيسف حيث تضع مبادئ توجيهية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في التعليم.
نظرة مستقبلية
وبالعودة لمدير المعلوماتية المهندس نجيب سلق، يعتبر أنه بالرغم من كلّ التحديات، أن النظرة الغالبة هي التفاؤل، وعلى حدّ قوله :فإن الذكاء الاصطناعي سيسهم في تحرير المعلمين والطلاب من الأعمال التي تستهلك الوقت، ما يجعل الذكاء البشري في نهاية المطاف في مصلحة التعليم ويجعل الجيل القادم منسجماً مع اهتماماته التقنية.
ويؤكد سلق أن وزارة التربية والتعليم تنظر بجدية في تجارب التحول الرقمي العالمي والاستفادة منها وإدماج الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، مع وعي بقدرة الشباب السوري على التأقلم رغم التحديات، مشدداً على أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يكون أخلاقياً وجديراً بالثقة، أي شفافاً قابلاً للتفسير، عادلاً ومحايداً، وخاضعاً للمساءلة، ومتوافقاً مع الخصوصية، وأن يكون أداة مساعدة تدعم الشرح والتفكير بدلاً من أن يحل محلهما.