د.أنس الفتيح ناشط سياسي:
“كل ثورة تُولد حالمة، لكنها تكبر لتصبح واقعية” إيريك هوفر عندما تندلع الثورات، تشبه النار المتأججة في ليلٍ طويل، يحملها أناسٌ امتلأت قلوبهم برغبة التغيير، هم أولئك الذين رفضوا أن يكونوا رهائنَ للواقع المرير، فحطّموا قيود الخوف وخرجوا إلى الساحات يهتفون للحريّة، لكنّ الثورة ككل مولود جديد لا تبقى على حالها، فما أن تهدأ العاصفة حتى تبدأ مرحلةٌ أكثر تعقيداً “مرحلة بناء الدولة”، هنا يحدث ذلك التحوّل المثير للجدل حين يجد الثوّار أنفسهم فجأةً في موقع المسؤولية، فيتحولون من دعاة تغيير جذري إلى حرّاس للاستقرار.
من الشعارات إلى المؤسسات
“الثورة حلم يقظة جماعي، أما الدولة فهي الاستيقاظ منه” ريمون آرون في ساحات الاحتجاج، كان الهتاف “يسقط النظام!” كافياً لتحريك الجماهير، لكن في قاعات الحكم لم يعد هذا الشعار مجدياً، فالثائر الذي كان يطالب بتغيير كل شيء يصبح الآن مسؤولاً عن إيجاد البديل.
الفارق بين الثورة والدولة هو كالفرق بين دودة القز التي تمزق شرنقتها بفطرتها الثائرة، وبين النسيج الدمشقي الذي يحول ذلك التمرد إلى لوحة من حرير شديدة الاتساق تُبهر العيون.
لسنا بدعاً لقد شهد التاريخ أمثلة عدة لهذا التحول: يحضر مثال جورج واشنطن وبعد انتصار الثورة الأمريكية، وعندما اقترح بعض الضباط تحويل جيش الثائرين إلى قوة سياسية، قمع الفكرة فوراً، مؤكداً أن الجيش يجب أن يخضع للسلطة المدنية،. وفضّل بناء المؤسسات وأن يجعل من نفسه حارسا للدستور بدل تكريس سلطة الثوار، لم يكن هذا تحولاً محافظاً، بل كان تحولاً من ثائر إلى مؤسس دولة نيلسون مانديلا مثال آخر عن هذا التحول فقد قضى الرجل سبعة وعشرين عاماً في الاعتقال، تحوّل بعدها إلى رئيس يسعى للمصالحة الوطنية بدلاً من الانتقام، مدركاً أن بناء الأمة يتطلب تجاوز المظالم الشخصية، لم يكن هؤلاء خونةً لأحلام الثورة، بل كانوا حكماءَ أدركوا أن البناء أصعب من الهدم.
لماذا يتحوّل الثوّار إلى محافظين؟
هذا التحوّل ليس انتكاسة للمبادئ كما يتهمهم البعض، بل هو استجابةٌ طبيعية لثقل المسؤولية. فالثائر في الميدان يتحمّل مسؤولية نفسه وقناعاته، أما الحاكم فيتحمّل مسؤولية شعبٍ بأكمله.
في سوريا، يقول المثل: *اللي بيعرف يحرق، لازم يعرف يطفي”. الثورة تحتاج إلى شجاعة إشعال النار في القديم، لكن الدولة تحتاج إلى حكمة إدارة الجمر كي لا يحترق الجميع.
يكمن جوهر هذا التحول في ثقل المسؤولية الجديدة التي تفرضها مرحلة بناء الدولة، حيث تتحول المقاومة البطولية التي كانت مصدر فخر في زمن الثورة إلى ما قد يُنظر إليه كـتهديد للأمن العام في زمن الدولة، إذ لم تعد الشعارات على أهميتها كافية لإدارة شؤون المجتمع، فما ينفع في ساحات الاحتجاج لا يطعم الجائع ولا يبني المستشفيات، فتجد القيادة الثورية نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات اقتصادية صعبة قد تكون مرّة لكنها ضرورية لإبقاء الأمة واقفة على قدميها.
كما تختلف طبيعة العلاقات الخارجية جذرياً، فبينما يمكن للثورة أن تعيش في عزلة طهرانية، فإن الدولة لا بدّ لها من نسج علاقات معقدة مع المجتمع الدولي، تتراوح بين التعاون والتنافس، مما يفرض على القادة السابقين تبني منطق جديد قد يبدو متناقضاً مع شعارات الماضي، لكنه في الحقيقة تعبير عن إدراكهم لاختلاف طبيعة المرحلة وتبدّل الأولويات من قلب الثورة إلى عقل الدولة.
الثورة والدولة.. رحلة واحدة بمحطّات مختلفة “الثورات لا تُحكم كما تُشعل، ومن يحكمها ليس هو من أشعلها بالضرورة” توماس جيفرسون
الحكم فنٌ مختلف عن فن الثورة. فإذا كانت الثورة تشبه العاصفة التي تقتلع الأشجار الميتة، فإن الدولة تشبه المزارع الذي يغرس بدلاً منها أشجاراً جديدة ويُعنى بها.
هذا لا يعني أن المطلوب من الدولة أن تقتل روح الثورة، بل يعني أنها تكملها بطريقة أخرى، فالثورة بدون دولة ستكون كعاصفة عابثة تدمر كل شيء دون أن تترك شيئاً صالحاً للبناء، أما الدولة بدون روح الثورة فستكون كشجرة بلا جذور، قادرة على الوقوف لكن غير قادرة على النمو.
الدورة الأبدية للتغيير
التاريخ يعلمنا أن الأمم تمرّ بدورة لا تنتهي: من الثورة إلى الدولة، ثم من جمود الدولة إلى ضرورة ثورة جديدة لكن الفارق بين الثورة العابثة والثورة الحكيمة هو في قدرتها على تحويل الحلم إلى مؤسسات، وكما أن السكين ذات حدين قد تشق طريق الحرية، أو تذبح الحلم ذاته هكذا هي الثورة حين تلتقي بمفترق الدولة، إنها اللحظة المصيرية التي يتكثف فيها مصير الأمم: إما أن تتحول الزوبعة الثائرة إلى نسيم بناء، أو تظل إعصاراً يذر الرماد حيثما مر.
لقد عرف التاريخ ثوراتٍ ماتت في مهدها لأنها رفضت أن تكبر، وأخرى تحولت إلى وحوش تلتهم أبناءها لأنها نسيت أنها وُلدت من أجل الحياة لا الموت.
ها هي الثورات العظيمة تقف على حافة الهاوية: إما أن تقفز إلى المجهول بجرأة المجانين، أو تتحول إلى جسر يعبر عليه الوطن من ظلام الماضي إلى فجر المستقبل.
إنها معركة الوجود الأبدية بين الحلم الذي لا يموت، والواقع الذي لا يرحم.
فهل تنجح ثورتنا في أن تكون شمساً تشرق على وطن جديد، أم ستظل شرارةً عابرة في ليل التاريخ الطويل؟
الجواب لا يكمن في الكتب، بل في تلك اللحظة الحاسمة، حيث يلتقي دم الشهداء بحبر الحكماء، ليكتبوا معاً سفر الخلاص الوطني وليرسموا معاً ملامح الوطن المنشود.