الثورة – إيمان زرزور:
رغم مرور أكثر من ستة أشهر على انتهاء الحرب في سوريا، لا تزال عشرات المناطق والأحياء داخل البلاد ترزح تحت وطأة الدمار والصمت، بلا سكان ولا مقومات للحياة، وبينما خفتت أصوات المدافع والقصف، ظلّت أبواب العودة موصدة أمام الأهالي الذين هجّرتهم الحرب، في مشهد تُجسّده البيوت المهجورة، والمدارس الفارغة، والطرقات التي لا تطؤها أقدام.
تشمل المناطق المتضررة والمُهجرة أحياءً واسعة في ريف دمشق، كداريا وجوبر وعين ترما، وأجزاء كبيرة من حلب القديمة مثل باب النصر والسكري والكلاسة، إلى جانب بلدات وقرى في ريف إدلب الجنوبي والشرقي، وريف حماة الشمالي، وريف حمص الجنوبي، ومناطق واسعة من دير الزور، ورغم سقوط النظام وبدء عودة المهجرين واللاجئين، لا تزال الغالبية منها خالية من سكانها أو يقطنها عدد قليل لا يكفي لإحياء الحياة فيها.
تتنوع الأسباب التي تمنع السوريين من التفكير بالعودة إلى مدنهم وقراهم، وتتشابك بين ما هو ميداني وإنساني واقتصادي، فالدمار في البنية التحتية واسع النطاق، والمنازل مهدمة أو متضررة بشكل لا يسمح بإعادة السكن فيها، فيما تغيب الكهرباء والمياه والصرف الصحي والمدارس والمراكز الصحية والأسواق، وتشير تقارير أممية إلى أن أكثر من 70% من البنية التحتية في المناطق المتأثرة بالحرب قد دُمرت بالكامل.
إلى جانب ذلك، يشكّل خطر الألغام والذخائر غير المنفجرة عائقاً بالغ الخطورة، خاصة في الأحياء السكنية والمزارع التي لم تخضع بعد لعمليات تطهير كاملة، ما يجعل العودة مخاطرة حقيقية تهدّد حياة المدنيين.
كما يفاقم الوضع انعدام الفرص الاقتصادية، فلا وظائف، ولا منشآت إنتاجية، ولا زراعة فاعلة، ولا مؤسسات يمكن الركون إليها لتحقيق استقرار معيشي، ما يجعل أي محاولة لبدء الحياة من جديد هو أمر شديد الصعوبة، خاصة للأسر التي تعيش على الإعانات في مناطق النزوح أو اللجوء.
وتتفاقم المعضلة بغياب المبادرات المحلية والدولية الهادفة إلى دعم عودة النازحين، في ظل ضعف برامج إعادة الإعمار، فترميم منزل واحد قد يتجاوز قدرة العائلة المتوسطة، في حين تغيب الحوافز الحكومية أو الأممية الجادة التي تشجّع السكان على الرجوع.
أيضاً، ليست التحديات مادية فقط، بل مجتمعية أيضاً، فقد تفرّق سكان الأحياء إلى بقاع شتى داخل سوريا وخارجها، وتلاشت الروابط المجتمعية في كثير من المناطق، ما يجعل العودة الفردية من دون الجيران أو الأقارب أمراً مثبطاً للكثيرين، خاصة مع غياب الإحساس بالأمان أو الانتماء الجماعي.
وأمام هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى استراتيجية وطنية شاملة تتضمن، إطلاق مشاريع إعادة إعمار تركّز على المناطق المهجورة بتمويل دولي ومحلي، وتنفيذ خطط تطهير سريعة ومنظمة للألغام ومخلفات الحرب، وتقديم حوافز واقعية للعائدين مثل إعانات، قروض إسكان، وخدمات مجانية، وإشراك المنظمات الإنسانية والمجتمع المدني في عملية العودة وإعادة الدمج، علاوة عن استعادة ثقة السكان بالدولة من خلال ضمان الأمن وتقديم التسهيلات القانونية.
وبالتأكيد إن استمرار بقاء المدن خالية من أهلها هو وجه آخر من وجوه الحرب، حرب بلا رصاص لكن بآثار لا تقلّ فتكاً، فالمكان الذي لا يقطنه ناسه يبقى معلقاً بين الموت والحياة، لا ماضٍ يُستعاد فيه، ولا مستقبل يُبنى، وسوريا لن تنهض فعلياً إلا بعودة أبنائها إلى بيوتهم، لا بالشعارات، بل بالخدمات والبنى الأساسية والأمان، إذ وحده الإنسان يُعيد الحياة إلى المدن، ووحده الأمان يعيد الإنسان.