فراس علاوي
في حالة فكرالبناء الوطني، تظلّ (المواطنة) الأساس القوي الذي يرتكز عليه عقد الدولة الاجتماعي، فهي التي تجمع أفراد المجتمع حول قيم مشتركة؛ المواطنة ليست مجرد جنسية وحسب، بل هويةٌ وانتماءٌ والتزامٌ متبادل بين الحاكم والمحكوم، بين الفرد بمفرده مع أفراد الوطن الآخرين ، حيث يـتشارك الجميع في بذل الجهد لبناء دولة حديثة قائمة على سيادة القانون والمؤسسات.
وحتى يكون هذا العقد الاجتماعي قادراً على الصمود ضد تيارات التفكك، لكن هذا العقد بحدّ ذاته لا بدّ أن يُفعل في إطار من الكفاءة الشخصية ، من دون أي اعتبار للمذهبية أو الفئوية أو التقسيمات الأخرى.
فالكفاءة هنا ليست خياراً، بل هي ضرورة لضمان حسن سيرالإدارة العامة، وسلامة اتخاذ القرار على أساس العلم والخبرة والإنجاز والمعرفة، وليس على أساس الولاء.
فحينما تكون الكفاءة معيارالتعيين، يرتفع السؤال عن الجدارة، وينخفض الحديث عن الانتماء الفئوي؛ وهذا بدوره يعزز الثقة العامة بمؤسسات الدولة.
كذلك تأتي العدالة لتكون جسراً بين الكفاءة والممارسة الاجتماعية بحيث من خلال تطبيقها تحقق أحقية التعيين وأفضليته.
من خلال فهمنا للعدالة الوظيفية، ندرك أنها لا تنبع فقط من التوزيع الإنصافي للحقوق والواجبات، بل أيضاً من المراعاة الحقيقية للتنوع الاجتماعي، وتفعيل آليات شفافة للنزاهة تُقدّم المجتهد وتسند إلى من يستحق.
إن ربط العدالة بالاختيار لا يعني تجاهل العدالة في الانتماء، بل يعني تجهيز ورفد منظومة الحكم بالمعاييرالمهنية التي تحكم الاختيار، ما يعزز ثقة المواطنين في أن النظام يحكمه التنافس المشروع، لا المحسوبيات التي تبقى مرتهنة للولاءات.
من أخطر المزالق التي تهدم الدولة، هو التحول من المواطنة إلى العصبة، ومن الولاء المؤسّس على الفكر والإنجاز إلى الولاء المبني على الانتماء الفئوي.
فحينما تسود هذه الولاءات، تتحول منظومة التعيين من معيار الكفاءة والاختيارإلى معاييرالولاءِ الفئوي، فالاختيار من دون كفاءة يلغي فكرة المواطنة وتنهار معها المؤسسات.
تُصبح الدولة حينها حلبة ولاءات لا مكان فيها للمردودية، وهذا ما يؤدي إلى تردٍ في أداء الأجهزة وضياع فرص تقدّم المجتمع بأسره.
طالما أن المواطنة هي الدافع للإخلاص، والكفاءة هي الضابط للإنجاز، والعدالة هي حارس التنظيم، فإن الدولة تسير في طريقٍ متين نحو تماسك مجتمعي واستقرارمؤسساتي.
ومن هنا تأتي مسؤولية الحكومات والمجتمع المدني والمواطنين على حدّ سواء، في ترسيخ المعايير التي تحافظ على هذا العقد الاجتماعي.
وبناءً عليه فإن : تعزيزالمواطنة: من خلال تعليم الحرية والانتماء من خلال معايشتها اليومية وادخالها كأحد قيم المجتمع، وغرس قيم الاحترام والتضامن.
تفعيل الكفاءة: عبر أنظمة شفافة للتعيين والترقية، ومعايير مهنية واضحة في الوظائف العامة.
إرساء العدالة: بتقوية آليات الرقابة وحرية التعبير، وتفعيل الدور الرقابي للمجتمع المدني والإعلام الحر.
الابتعاد عن الفئوية: بنشر ثقافة الحوار وشمول المؤسسات لكلّ فئات المجتمع قبل ولائه المذهبي أو القبلي.
إن بناء دولة حديثة وقوية ينطلق من ترابط هذه الركائز: المواطنة الكاملة، إدارة مبنية على الكفاءة، عدالة تتمثل في الاختيار، وردع الولاءات الضيقة.
وعندما تُتحقق هذه الشروط، فإن الدولة تصبح قادرة على مواجهة التحديات الكبرى، وسط مجتمع راسخ في إنسانيته ومؤسساته، متحدٌّ في طموحه، موحّدٌ في مصيره.