عبد الله الدالي:
مع اقتراب امتحانات الشهادة الثانوية، تشتد الضغوط على الطالب، ويبدأ المجتمع بنسج خيوطه في رسم ملامح مستقبله بناءً على هذه المرحلة وحدها، وكأن النجاح أو الفشل في الحياة محصور في نتيجة ورقة امتحان!
من هنا، يجدر بنا التوقف قليلًا لنكشف بعض الهواجس التي تعصف بالشباب، والأوهام التي تسيطر على عقولهم في هذه المرحلة الحرجة.
لكن قبل أن نبدأ، علينا الاعتراف بأن هذه الهواجس لم تنشأ من فراغ، بل هي نتاج ثقافة مجتمعية كرّست مفاهيم خاطئة عن الشهادة الثانوية، حتى أصبحت فزاعة نفسية.
الشباب لا يُلامون على وقوعهم في هذه الأوهام، بل يُلامون إذا استسلموا لها بعد أن يدركوا حقيقتها، وبدلاً من التحرر منها، يقومون بتوريثها لمن بعدهم.
هذه الهواجس أضاعت على الكثيرين فرص النجاح الحقيقي، وزرعت في نفوسهم الخوف من الفشل، لا لشيء إلا لأنهم ساروا في الطريق الذي رسمه المجتمع مسبقاً لهم.
لعل من أهم هذه الهواجس والأوهام:
أولاً: الشهادة الثانوية ليست معياراً وحيداً للنجاح، من الخطأ اختزال النجاح في ورقة الشهادة أو عدد سنوات الدراسة.
فالمعيار السائد اليوم في المجتمعات – سواء أحببنا ذلك أم لا – هو المعيار المادي. وإذا أجرينا إحصاءً دقيقاً، لوجدنا أن كثيراً من أصحاب النجاحات الاقتصادية والاجتماعية لم يحصلوا على شهادات علمية مرموقة، بل سلكوا طرقاً
أخرى كالتجارة، أو تعلّم مهن احترافية.
قد ينجح الشاب نجاحاً باهراً في مجال عملي أو مهني لا علاقة له بالتحصيل الأكاديمي، في حين يفشل في الدراسة رغم اجتهاده. والعكس صحيح أيضاً، فليست الشهادة معياراً عاماً للنجاح، وإنما وسيلة لمن يختار الطريق الأكاديمي.
ثانياً: الدرجات العالية لا تعني بالضرورة نجاحاً حقيقياً
النجاح لا يُقاس بعلو الدرجة، بل بمدى توافق النتيجة مع ميول الطالب وقدراته، فقد يحصل الطالب على علامات كاملة تحت ضغط الأسرة والمجتمع، دون قناعة حقيقية بما يدرسه، فيسير في طريق لا يحبه ولا يبدع فيه.
وعلى النقيض، قد ينجح طالب بدرجة مقبولة، لكنه يدخل مجالاً يحبه، فيبدع ويتميز فيه، ويتفوق على من كانوا في المقدمة رقمياً.
ثالثاً: لا يوجد “فرع أعلى” أو “أقل قيمة”
جميع الفروع الدراسية ذات قيمة، ولا يجوز قياس أهميتها بمقدار الدخل المتوقع أو عدد سنوات الدراسة، فقيمة الطالب لا تنبع من اسم الفرع، بل من جهده وإبداعه في مجاله، والخدمة التي يقدمها لأمته.
الوهم الذي يجعل من الطب أو الهندسة قمما
اجتماعية، ويهمّش الفروع الأخرى، يجب أن ينتهي، الواقع أثبت أن من ينجحون في حياتهم العملية ليسوا دوماً من دخلوا ما يُسمى “فروع القمة”، بل كثيرون تفوقوا في مجالات أقل شهرة لكنها أكثر مناسبة لهم.
رابعاً: كثرة الدراسة لا تعني بالضرورة درجات عالية
ثمة خرافة منتشرة بين الطلاب تقول: إن عدد ساعات الدراسة مرتبط طردياً بعدد العلامات، وهذا غير دقيق، النجاح في الامتحانات يعتمد على ثلاثة عناصر أساسية:
1. الفهم العميق للمادة.
2. إعطاء الوقت الكافي “من دون زيادة ولا نقصان”
3. الراحة النفسية.
قد نجد طالباً يدرس عشرين ساعة يومياً دون فهم، وسط ضغط وتوتر، قد لا يحقق شيئاً. بينما طالب آخر يدرس ست ساعات يومياً بهدوء وتركيز قد يحصد أعلى الدرجات.
خامساً: الرسوب ليس نهاية العالم
في بعض البيئات، بات الرسوب في الشهادة الثانوية كارثة اجتماعية ونفسية، لدرجة أن بعض الشباب يلجأ إلى الانتحار إن لم يُحقق المعدلات المرجوة. وهذا خلل كبير في منظومة القيم المجتمعية.
الرسوب ليس عيباً، بل تجربة يمكن تجاوزها، إن كان الطالب راغباً في إكمال دراسته، فإعادة السنة خطوة طبيعية، أما إن كان لا يرغب بالدراسة أصلاً، فالأجدر أن نفتح أمامه أبواباً أخرى تناسبه، بدلاً من سجنه في مسار لا يناسبه.
وفي الختام علينا أن نمنح الشهادة الثانوية حجمها الحقيقي دون تضخيم أو تهميش، فهي مرحلة مهمة، لكنها ليست وحدها التي تحدد مصير الشاب، فمن يرى مستقبله في المجال الأكاديمي، فلنكن سنداً له، ومن لا يراه هناك، فلنكن له عوناً في رسم طريق آخر يبدع فيه.
الشاب الذي لا يحصل على علامات عالية، أو لا يدخل “الفرع المرموق”، ليس فاشلًا، بل ربما لو دخل المجال الذي يحبه، لكان أنجح من زملائه الذين ساروا في طريق المجتمع لا طريقهم، إن نهضة الأمم لا تُبنى على الورق، بل على الإبداع والإنتاج، وعلينا أن نضع الجهد في المكان الصحيح، لنرى أمتنا تقود لا تُقاد.