محمد جمال
كان المشهد في قصر الشعب ليل إطلاق الهوية البصرية لسوريا الجديدة أكثر من مجرد احتفال، كان إعلاناً رمزياً، سياسياً وثقافياً، بأن هذه البلاد قررت أن ترى نفسها من جديد، لكن بأعين المستقبل، الرئيس أحمد الشرع وقف أمام السوريين، وأمام التاريخ، مؤكداً أن سوريا ما بعد ديسمبر 2024 ليست نسخةً مشوهةً عما قبلها، بل مشروع نهضة، وإنسان، وهوية.
لكن ما إن انتهى الحفل، حتى بدأ العزف المعتاد: البعض يشكك، البعض يسخر، والبعض الآخر يبحث في رمزية العقاب إن كانت أصلاً سورية أم لا، ويضيع السؤال الأهم: هل نريد دولة قانون ومؤسسات؟ أم نعود إلى هواية جلد الذات والشك الدائم بكل مبادرة وطنية؟ في دولة خرجت لتوّها من نفق مظلم استمر سنيناً، طبيعي أن تختلف الأصوات، وتتباين الآراء، لكن غير الطبيعي أن يتحوّل كل إنجاز إلى مادة للهجوم والتشكيك، الهوية البصرية ليست شعاراً فقط، بل إعلان عن نوايا دولة تحاول أن تبني ذاكرة جماعية جديدة لسوريا، تتجاوز الانقسام والخطاب العدمي.
من السهل البحث عن أوجه الشبه بين الشعار الجديد وأي شعار عالمي، لكن الأجدى أن نسأل: ما الذي يمثّله هذا الشعار لنا؟ هل يمثل سوريا موحدة، مدنية، تعددية؟ هل يوصل رسالة أن سوريا قررت أن ترى نفسها بعينٍ جديدة، لا بعين الماضي؟ الجواب نعم، وهذا بحد ذاته بداية مهمة.
الرئيس أحمد الشرع… واقعية حازمة في وجه التشكيك
كلمة الرئيس أحمد الشرع لم تكن فقط خطاب احتفال، بل كانت بمثابة إعلان ميثاق سياسي – أخلاقي، أكد فيه على وحدة سوريا، وعلى الحق في الاختلاف دون التخوين، لكن بين فئة تؤيد كل شيء دون تفكير، وأخرى تعارض كل شيء دون منطق، ضاع صوت النقد البنّاء، واختفى جوهر النقاش الحقيقي: كيف نؤسس لسوريا الجديدة.
الدولة السورية الجديدة لا تدّعي الكمال، لكنها تحاول، وتتحرك، وتُصدر المراسيم، وتفتح أبواب العدالة، ولو بعد سنين من الإغلاق، والرئيس أحمد الشرع بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء لم يغلق باباً أمام أي نقاش حقيقي حول مسار الدولة الجديدة.
المطالبات بأن تكون “الهوية البصرية” مقرّة قانوناً تُعد مطلباً محقاً.
والدستور، والإعلان الدستوري، يجب أن يكون مرجعاً لكل شيء، وهذا ما تدركه السلطة جيداً.
هناك من ركب قطار الثورة في محطته الأخيرة، ليصبح اليوم وصياً على قرارات الدولة، وهناك من يحاول جرّ سوريا الجديدة إلى ماضيه المظلم، لكن بين الاثنين، هناك تيار عاقل، ووطني، يؤمن أن الرئيس أحمد الشرع فرصة تاريخية لسوريا، لكنه لا يريده نبياً ولا صنماً, يريد رئيساً يُحاسب ويُحاور ويُكمل بناء الدولة على أسس متينة.
في الختام: الدولة لا تُختصر في شعار… لكنها تبدأ به
سوريا التي نريدها لن تختصر بهوية بصرية، مهما كانت جميلة، لكنها تحتاج إلى هوية سياسية وأخلاقية جديدة، قوامها القانون والمواطنة، وسوريا الجديدة بدأت بالفعل تشييد هذا الصرح، لكن دون دعم شعبي واعٍ، ودون إعلام وطني مسؤول، ستبقى الضوضاء أعلى من الإنجاز.
فليكن شعار العقاب أو النسر أو الزيتون… لكن ليكن الشعار الحقيقي: لا قداسة إلا للدستور، ولا قوة تعلو على قوة القانون، ولا صوت يعلو فوق صوت الدولة.