سلطان الكنج – كاتب سوري:
للمرة الأولى منذ عقود، تابع السوريون انتخابات مجلس الشعب بقدر غير مسبوق من الاهتمام، رغم أنهم لم يشاركوا بشكل مباشر في اختيار ممثليهم، لأسباب اقتضتها المرحلة الانتقالية.
هذه الانتخابات حملت في طياتها شيئاً جديداً دفع السوريين للنظر إليها بعين مختلفة، ومناقشتها بجدية.
كانت هذه أول مرة يشعر فيها المواطن السوري بأن هناك منافسة حقيقية، وأن النتائج ليست محسومة سلفاً كما اعتاد الناس في زمن حزب البعث.
في الماضي، كان السوريون يسخرون سراً من ما يُسمّى “انتخابات مجلس الشعب”، إذ لم تكن سوى مسرحية مكرّرة يعرف الجميع نهايتها قبل أن تبدأ.
اليوم تغيّر المشهد، بدأت ملامح جديدة تتشكل، ثار السوريون من أجلها، مرحلة يمنح فيها الإنسان السوري مكاناً لرأيه واعتباره. تلك الانتخابات حملت في طياتها تشويقاً وإثارة، رغم محدودية الآلية، وفتحت باباً للنقاش والمنافسة الحقيقية.
لم تعد القوائم تأتي من “القيادة القطرية” أو من أجهزة الأمن، بل بدت المنافسة محتدمة وبألوان فكرية متعددة: المدني، المستقل، الإسلامي.
لكن، ورغم كل هذه المؤشرات الجديدة الايجابية يبقى الانطباع العام في أذهان السوريين عن مجلس الشعب سلبياً إلى حد كبير، وذلك لما خلقه وكرسه النظام طوال حكم البعث، إذ جلعه مؤسسة شكلية، بلا دور فعلي في الحياة السياسية، وأنّ أعضاءه مجرد واجهة اجتماعية مُرضى عنها من قبل السلطة، لا صلة لهم بوظائف التشريع أو الرقابة أو المساءلة.
لقد نجح نظام الأسد طوال نصف قرن في تكريس هذه الصورة؛ فحوّل البرلمان إلى ما يشبه غرفة تصفيق رسمي، مهمتها الوحيدة مباركة قرارات السلطة التنفيذية وتمجيد القائد.
حتى إنّ السوريين أطلقوا عليه ساخرين لقب “مجلس التصفيق”، وهو وصف دقيق لواقع جعل العلاقة بين النائب والوزير علاقة مصلحية أكثر منها رقابية، إذ كان كل منهما يستفيد من الآخر في شبكة الولاءات والمنافع المتبادلة.
من هنا تأتي أهمية مجلس الشعب الجديد، فهو أول مجلس يُنتخب بعد سقوط النظام، أول مجلس يمثل الثورة السورية ويكون نتاجها، وأمامه مهمة تاريخية خطيرة: إما أن يكرّس الصورة القديمة عن المجلس بوصفه ديكوراً، جسداً شكلياً لا معنى فيه، أو أن يؤسس لثقافة جديدة تعيد الاعتبار للسلطة التشريعية بوصفها ركيزة أساسية في بناء الدولة.
هذا المجلس، إذا أراد أن يكون نقطة تحول حقيقية، عليه أن يُعيد إلى الأذهان المعنى الحقيقي للبرلمان، سلطة تُراقب السلطة التنفيذية، تُحاسب الوزراء، تُسائل الحكومة، وتسنّ القوانين التي تخدم المواطن وتحمي مصالحه، لا أن تتحول إلى ناد للشللية أو واجهة للمصالح الخاصة، ومكان للجاه والمكاسب المعنوية والمادية.
إنّ المهمة الملقاة على عاتق هذا المجلس ليست سياسية فحسب، بل أخلاقية وثقافية وتاريخية، فإما أن يُقال بعد سنوات إنّ أول مجلس بعد الاستبداد قد أعاد للسوريين معنى التشريع والمساءلة، أو يُقال إنه كان نسخة جديدة من مجالس البعث، لكنه بملامح مختلفة.
على أعضاء هذا المجلس أن يُدركوا أن ما ورثوه ليس فقط دولة منهكة، بل وعي مشوه وثقافة استبدادية كرّسها النظام السابق. لقد جعل الأسد من البرلمان مجرد “زينة سياسية” توهم الناس بوجود تعددية، بينما كان القرار الحقيقي يُصاغ في مكاتب المخابرات.
لذلك فإنّ التحدي الحقيقي اليوم هو تحرير الوعي السياسي للسوريين من تلك الصورة الراسخة، وترسيخ فكرة أنّ البرلمان ليس تابعاً للسلطة التنفيذية، بل هو سلطة مستقلة تمثل الشعب وتدافع عن مصالحه.
إنّ المهمة الكبرى أمام هذا المجلس لا تتعلق فقط بسنّ القوانين، بل بترميم الثقة المفقودة بين المواطن ومؤسسات الدولة. فالمواطن السوري الذي عاش عقوداً من القهر والفساد لا يهمه فقط إصدار القوانين، بقدر ما يهمه أن يشعر أن صوته بات مسموعاً وأن قضاياه اليومية من المعيشة والبطالة إلى العدالة الاجتماعية تجد من يمثلها داخل قبة البرلمان.
كما أنّ الحفاظ على مكتسبات الثورة السورية يجب أن يكون الهاجس الأول لكل نائب، فالثورة لم تكن مجرد احتجاج سياسي، بل كانت صرخة وعي تطالب بالحرية والكرامة والمشاركة، إذ إنّ أي تجاهل لهذه القيم سيُعيدنا الى المربع صفر.
إنّ مهمة البرلمان اليوم هي أن يُرسخ ثقافة الحرية والمساءلة، ويُسهم في بناء دستور جديد يضمن كرامة المواطن ويجعل منه شريكاً حقيقياً في القرار السياسي، لا تابعاً له.
وعليه أيضاً، أن يواجه ثقافة “التطبيل” التي ورثها من العهد البائد، وأن يثبت أن التشريع ليس وسيلة للمديح أو للتمجيد، بل أداة لبناء دولة مؤسسات، تُحاسَب فيها الحكومة، ويُساءل فيها الوزير، ويُحترم فيها صوت الناخب.
إنّ الأجيال السورية القادمة ستنظر إلى هذا المجلس كاختبار حقيقي:هل سيكون مجلساً يكرس ثقافة البعث القديمة في الطاعة والتصفيق، أم سيكون أول برلمان يُعيد للسوريين معنى الدولة والحرية والمواطنة ومعنى سلطة تشريعية؟
إنّ الإجابة عن هذا السؤال لن تُكتب في البيانات الرسمية ولا في نشرات الأخبار، بل في ضمير كل نائب اختار بين أن يكون ممثلاً حقيقياً للشعب، أو مجرد ظلّ آخر لثقافة النظام من دون أن يعي ذلك.