الثورة – تحقيق راما نسريني:
في مشهد يشي بالتشويه والعشوائية، تُعاني أرصفة مدينة حلب من استنزاف متواصل لمكانها الطبيعي، نتيجة غياب الرقابة المستمرة من قبل الجهات المعنية، ما فسح المجال أمام أصحاب المصالح الخاصة لاستغلالها من دون أي اعتبار للمصلحة العامة.
“المولدات”.. كابوس حلب
منذ تعرض المدينة للقصف الذي دمّر بنيتها التحتية، تعيش أحياء كاملة في ظلام شبه دائم بسبب انهيار الشبكة الكهربائية.وفي الأحياء الأقل تضرراً، ما زالت المحولات المتهالكة تعمل ساعات قليلة يومياً، إذ يصل التقنين إلى 14- 16 ساعة يومياً، مقابل ساعتين فقط من التغذية. هذا الواقع جعل الأهالي يعتمدون على “الأمبيرات”، ما أدى إلى انتشار المولدات بشكل واسع في الشوارع، هذه المولدات الضخمة لا تكتفي باحتلال الرصيف، بل يضع أصحابها بجانبها براميل وقود وأكشاك صغيرة لمراقبة العمل، فتحوّلت الأرصفة إلى ما يشبه “مكاتب خاصة” عوضاً عن كونها ممراً آمناً للمشاة. كذلك فإن التلوث السمعي والبصري والبيئي الناتج عنها بات عبئاً يومياً، يصفه أبو ميسر، أحد سكان حي الشعار: “الأمبيرات تحتل الرصيف بالكامل وتجبرنا على النزول إلى الشارع معرضين حياتنا للخطر، فوق صوتها المزعج والتكاليف الباهظة”. وتضيف الطالبة آية فاضل من حي صلاح الدين: “أخشى السير يومياً على الرصيف بسبب المولدات، ما يضع حياتي وحياة المارة في خطر دائم”.
الأرصفة كامتداد للمحال
لا يكتفي أصحاب المحال بمساحاتهم، بل يتعدون على الأرصفة بعرض نصف متر أو أكثر لجذب الزبائن، تاركين ممرات ضيقة بالكاد تسمح بمرور شخص واحد.. هذا الواقع يجبر المارة على النزول إلى الشارع، بما يحمله من مخاطر، فيما تحولت بعض الأرصفة إلى “ورش مفتوحة” للحدادة والنجارة. ويقول أبو ميسر: “يقع بيتي على أوتستراد عريض، رغم ذلك تحتل المولدات، تقريباً الرصيف بالكامل أمام بيتي، بفاصل مسافة ضيقة جداً، لا تكفي لمرور شخصين، مما يضطرني للنزول للشارع، الأمر الذي يجعلني عرضة لخطر السيارات المسرعة”. كذلك يلجأ أغلب أصحاب المحال، كبائعي الخضرة مثلاً لإشغال نصف متر، أو أكثر على حسب عرض الرصيف أمام محالهم، لأن ذلك، من وجهة نظرهم، يساهم في جذب انتباه الزبائن، ويزيد من فرص البيع، ويتركون ممراً ضيقاً جداً، قد لا يكفي لعبور أكثر من شخص واحد. تقول أم محمد، المقيمة في حي الفردوس، أحد الأحياء الشعبية: إن ظاهرة احتلال الأرصفة أصبحت جزءاً من كابوسنا اليومي.
كراج للسيارات
المساحات القليلة الفارغة المتبقية من الأرصفة والشوارع أصبحت هي الأخرى في مرمى أصحاب السيارات، في رحلة بحثهم اليومي عن مكان لركن سياراتهم، فلا يجدون أمامهم سوى الرصيف، هرباً من الأرتال الثانية التي سرعان ما يتلقفها شرطي المرور بالمخالفات والحجز، وعلى الرغم من أن ركن السيارة على الرصيف يعتبر أيضاً مخالفة لقوانين السير، إلا أنه حتى الآن ما زال هدفاً سهلاً لأصحاب السيارات.
الأمر لم يقتصر فقط على إغلاق الطريق أمام المارة بل امتد ليشمل مداخل الأبنية عبر رَكن السيارات على الأرصفة.
خالد. م، أكد أنه يعاني من أصحاب السيارات الذين يتركون سياراتهم أمام مدخل البناء، تاركين مسافة صغيرة جداً لعبور الأهالي، ما يصعّب أمر الدخول والخروج على كبار السن بشكل خاص.
تعددت الطرق والنتيجة واحدة!
لم تقتصر ظاهرة إشغال الأرصفة على الأحياء الشعبية فقط، بل امتدت لتغزو شوارع المدينة بالكامل، لكن بأشكال مختلفة، ففي أحياء مثل الفرقان، وسيف الدولة، والتلل، التي تمثل عصب الأسواق المركزية في المدينة، يسيطر بائعو البسطات على الأرصفة.
يقول أبو فيصل، من سكان حي سيف الدولة: “نستيقظ كل صباح على أصوات الباعة، ويقول بلال. ح، أحد سكان حي الفرقان الذي يقع تحت سطوة أصحاب البسطات: إن معاناتنا يومية بسبب غزو الرصيف وازدحام المرور في الحي كبيرة جداً.
وفي أحياء مثل الموكامبو وغيرها، نجد أيضاً أصحاب المقاهي يتصدرون المشهد، إذ يفترشون الرصيف ناشرين الطاولات والكراسي، علاوةً على الأراكيل و”مناقل الفحم” التي لا تكتفي بالرصيف، بل تمتد في معظم الأحيان لتشمل أجزاءً من الشارع أيضاً.
المدرس خليل مدراتي، يقول: يعمل أصحاب المطاعم والمقاهي لساعات متأخرة من الليل، إذ أصوات الأغاني المرتفعة تصل لبيوتنا وتمنعنا وأطفالنا من النوم، في حالة يمكننا تسميتها بالتلوث السمعي.
أطفال في مرمى الخطر
مع بداية العام الدراسي الجديد أصبحت مشكلة إشغال الرصيف تشكل خطراً كبيراً على سلامة الأطفال، إذ إنهم يُجبرون على السير في الشارع وبين السيارات، وذلك لصعوبة سيرهم على الرصيف.
أم محمد، القاطنة في حي الصالحين، وهي أم لطفلين، قالت: على الرغم من قرب مدرسة ابني من البيت إلا أنني لا أستطيع أن أتركه يذهب وحده، وذلك يعود لإغلاق المولدات للرصيف بشكل شبه كامل، ما يزيد من خطورة ذهاب الطفل وعودته بدون مرافق، لا يستطيع ابني ذو العشرة أعوام الذهاب إلى مدرسته بمفرده، فأضطر لاصطحاب ابني ذي العامين معي، إذ إنني لا أستطيع تركه وحيداً في المنزل، ويتكرر الأمر معي يومياً في مشقة كبيرة.
هذا المشهد يتكرر عند انتهاء الدوام الرسمي للمدارس فترى الأطفال في مرمى السيارات، ما يزيد من خطورة حوادث الدهس، وبنتيجة حتمية يؤدي ذلك لأزمة سير خانقة في الشوارع الرئيسية والفرعية على حد سواء، نتيجة لعبور الأطفال العشوائي للشارع.
يقول أبو مصطفى، سائق سيرفيس: اعتدنا على مشاهد الازدحام في أوقات الذروة، لكن في أوقات خروج الأطفال من المدارس يصبح الوضع أكثر صعوبة وخطورة.
متابعة الشكاوى
وفي رده الرسمي، بين المكتب الإعلامي لمجلس مدينة حلب أنه يتابع شكاوى المواطنين عبر الأرقام المخصصة، وذلك من خلال مكتب مختص لمتابعة الشكاوى، وأن المجلس يقوم بإزالة جميع المخالفات، سواء من قبل أصحاب المولدات غير المرخصة، أو ما شابه بشكل عاجل ومخالفة أصحابها.
الرصيف حق أساسي لكل مواطن في المدينة، وعندما يتحول هذا الحق إلى مساحة محتلة بالإشغالات العشوائية، فإن الأمر لا يتعلق فقط بالبنية التحتية، بل بحق الإنسان في التنقل الآمن.
وهنا لا تقف آثار إشغال الأرصفة عند حدود السلامة الجسدية فحسب، بل تمتد إلى الجانب النفسي.
البعض يختصر طريقه عبر الشارع، والبعض الآخر يتوقف عن الخروج تماماً، فيما ينتظر المواطن اليوم حلولاً جذرية وخطوات ملموسة على أرض الواقع تساهم في إعادة المظهر الحضاري لشوارع المدينة.