الثورة – رنا بدري سلوم:
لطالما كانت أشرفية صحنايا بلدة ريفية آمنة وادعة تضم مختلف مكونات المجتمع، بعدما لجأ إليها الكثير هرباً من أدوات قتل النظام الأسدي المخلوع آنذاك وخوفاً من براميله المتفجرة، وبعيداً عن الصورة النمطية البشعة التي خلفها، لابد لنا من إلقاء الضوء على الجانب الإيجابي وهو التعاضد والتلاحم بين مكونات الشعب السوري وعلى سبيل الذكر وليس الحصر “بلدة أشرفية صحنايا”.
يتصدر مشايخ طائفة المسلمين الموحدّين في الأشرفية المشهد اليوم في إعلاء لغة العقل أمام هول ما يراه السوريون من مشاهد دموية في محافظة السويداء، يرافقها زرع الفتنة والتخويف والتحريض لجرها لتصبح كالنار في الهشيم عبر رسائل الواتساب ومواقع التواصل الاجتماعي، فكيف استطاع رجالات الدين التأثير على مجتمعهم لعدم انغماسه بما يحدث من إشاعات الترهيب والتكفير، والوعود بالذبح والخطف والسبي التي تطول أهل البلدة؟
“الثورة” حاورت المشايخ الأفاضل.. يتحدثون عن دورهم الديني والاجتماعي المؤثر في تضميد الجراح تحقيقاً للسلم الأهلي وإعلاء كلمة العقل وتغليبها على لغة القتل والدمار، وماذا يريدون من حكومتهم وما يطالبون مجتمعهم؟.
دمعةٌ لم تجف بعد
بقيت عينا الشيخ أحمد أبو فايز فرزان- والد شهيد الأرض والعرض فراس الذي استشهد أثناء تواجده في منزله، ترنو إلى صورته التي تتصدر مضافته الواسعة، الشيخ فرزان كله ثقة وإيمان أنه لن يضيع حق وراءه مطالب، وهو اليوم ينتظر محاسبة من قتل وروع أبناء البلدة، مطالباً الحكومة بتطبيق العدالة وتحقيق القانون ونزع السلاح المنفلت من مكونات المجتمع، وإبقائه بيد الدولة وحدها، داعياً المجتمع الأهلي إلى تضميد الجراح، ونبذ التفرقة التي يريدها عدونا كي نتفرق ونبتعد عن نهج سلفنا الصالح، ولاسيما بعد خطابات الكراهية التي خلفتها أحداث السويداء مؤخراً في خلق الفتنة وجرها إلى المحافظات الأخرى، خاتماً بالقول: بحق دماء فراس والدماء البريئة وكل قطرة روت التراب السوري بكل المحافظات أن نؤمن بالمحبة والتسامح والتصالح والعيش المشترك وحدهم خلاصنا الأخير.
ارجعوا إلى تاريخنا المشرف
دعانا الشيخ الفاضل أنيس أبو ربيع الحاج علي إلى استرجاع التاريخ، لتقليب صفحاته واستعراض المواقف الوطنية للسوريين ككل، ولطائفة المسلمين الموحدين، وكيف كانت ولا تزال تنبذ الشر بالعصمة وتطفئ نار الحقد بالحكمة، وتضيء درب التائهين قولاً وفعلاً، في حديثه لنا أنه منذ أن أشعلت الحرب فتيلها، بدأ أهالي داريا يتوافدون إلى أشرفية صحنايا حتى بلغ عددهم بما يقارب 150 ألف مواطن، تقاسمنا معهم المسكن والطعام، والبعض الكثير منهم لا يريد العودة إلى دياره لما لاقاه من العيش المشترك والآمن بيننا.
لافتاً إلى أنه مثال بسيط يؤكد أن السلم الأهلي ليس شعاراً نحمله في وقت الحروب وحسب، بل واقع معاش لا يمكن نكرانه، وهو ما ندعو إليه اليوم رغم جرحنا النازف وعيوننا التي ترنو إلى السويداء بمصابها الأليم وانتهاكات ارتقى بسببها الآلاف، وهي التي كانت أثناء النظام البائد موعودة بحفر150 بئراً لأنها محافظة عانت ما عانته من العطش والجوع، وقد أشعل الحاقدون الفتنة والعداوة بينها وبين البدو للتفرقة، والذي يعد المكون الأساسي من مكونات جبل العرب، فكان سكانه بقلب واحد يطالبون بحقوقهم المحقة، وهم أول من رفع شعار الحرية رفضاً لاستبداد النظام المخلوع.
خاتماً الحاج علي حديثه بالقول: نحن اليوم نطلق صوتنا إلى المجتمع الأهلي ليرفض كل أشكال تشويه التاريخ والتمييز بين مكونات المجتمع، وذلك في بيان صدر بالأمس القريب، وقد جرى تطبيقه والتزم به أهالي البلدة وقت إصداره على الفور.
قيم العيش المشترك
بدوره نوه الشيخ ربيع الحاج علي بأهمية البيان الصادر، وإرساله عبر وسائل التواصل ليعمم على الجميع، ففي ظل الأحداث المؤلمة والدامية التي عصفت بنا، والتي راح ضحيتها عدد من الأبرياء نتيجة أعمال عنف مرفوضة ومدانة بكل المعايير الإنسانية والدينية، رفعت الهيئة الروحية في بلدة أشرفية صحنايا، بيانها موضحة أن ما جرى من سفك للدماء بين أبناء الوطن الواحد يبين لنا خطورة الاقتتال بين الإخوة، وهو ما نهى عنه الله تعالى في محكم كتابه، إذ قال سبحانه: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً للَّذِينَ آمَنُوا﴾ وقوله سبحانه وتعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾. قائلاً: ندين هذه الأحداث المؤسفة، ونؤكد على ضرورة التمسك بقيم العيش المشترك، وتعزيز روح المحبة والتسامح، والعمل على ترسيخ مبادئ السلم الأهلي. فالأديان جميعها، وعلى رأسها الإسلام تدعو إلى مكارم الأخلاق، وإلى احترام الإنسان لأخيه الإنسان، بغض النظر عن معتقده أو انتمائه، وهو ما عهدته بلدة أشرفية صحنايا من أبنائها طوال سنواتٍ مضت، وهذه دعوة صريحة إلى تغليب لغة السلم والتفاهم على لغة الصراع والسلاح.
إن رُقيّ الأمم وتقدم الشعوب لا يتحقق إلا من خلال الحوار البنّاء، والتفاهم المشترك، والاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات، بعيداً عن التعصب أو التفرقة، وإن مسؤولية حفظ هذا النسيج الوطني تقع أولاً على وعي المواطنين وحرصهم على السلم الأهلي، وثانياً على الدولة وأجهزتها، التي يقع على عاتقها واجب فرض القانون، وبسط الأمان، ومنع كل ما من شأنه إثارة الفتن أو تقويض الاستقرار.
وسبق أن دعا البيان إلى التطبيق الفوري لاتفاق وقف إطلاق النار، وفتح المعابر الإنسانية لتسهيل دخول المساعدات الإغاثية والطبية لحماية المدنيين والأبرياء. كما دعونا جميع العقلاء والمشايخ ورجال الدين والمؤثرين إلى تحمل مسؤولياتهم في إعلاء لغة العقل والحكمة والحوار، ونبذ خطاب التفرقة.
التحضر والانفتاح والتسامح
وتحدث الشيخ محمد سلمان معتوق عن أهمية السلم الأهلي، أنه غاية إنسانية لكل الشعوب المتحضرة، قائلاً: لن نصل إلى هذه الغاية إلا بتغليب لغة العقل بالحوار مع كل المكونات السورية، وبذلك نتغلب على الفتنة الطائفية المقيتة المدمرة، ونلحق بركب الشعوب المتحضرة ونقدم للوطن بتعاوننا مع بعضنا من دون النظر إلى أي طائفة ننتمي، ونبني وطننا بروح المحبة والسلام بسوريتنا بكل ما نملك من إمكانيات ليكون هذا الوطن جدير بالتشاركية مع الدول المتقدمة وها هم السوريون المنتشرون حول العالم والذين نفخر بهم عندما وفرت لهم فرص العمل ببيئة خالية من الطائفية أبدعوا بعملهم وأصبحوا من مشاهير العالم، فعلينا جميعاً وبتكاتفنا مع بعضنا كسوريين أن نبني بلدنا بأفضل ما يمكن وكل ما اقتربنا من بعضنا على أساس العقل المنفتح واحترام كل منا للآخر أصبحنا جديرين بسوريتنا التي نأمل ونتمنى.
أيادٍ بيضاء تطال القلوب
أمين سر الجمعية الخيرية الشيخ منيل الحلبي يضم صوته إلى صوت المشايخ الأفاضل بالإشارة إلى المساعدات التي قدمتها بلدة أشرفية صحنايا إلى كل عابر سبيل، وهو ما يدل على أن المكون السوري واحد هدفه الإنسانية التي لا تعرف الحدود ولا الفرقة ولا التقسيم، قائلاً: بحكم عملي فإني على مقربة من المجتمع الأهلي الذي لا نفرق بين مكوناته فكانت المساعدات الخيرية توزع بعدالة وكفاءة واستحقاق لا يمكن المساس به، والأمثلة كثيرة ولا تتسع المساحة لذكرها، ومن هذا المنبر نؤكد أننا كنا ولا نزال الصورة المصغرة لسوريا الحرة، إنها المواطنة والمواءمة بمجتمع متسامح متجانس عاطفي يساند بعضه وقت الجراح ووقت الأزمات، ولا يعرف سوى لغة السلام والأمان، وهو ما نسعى أن ننشره بين الناس فعلاً وقولاً.
رسالة مصاب “قد نجوت من الموت، وأصبت إصابة بالغة.. الكثير مثلي، كتب له عمر جديد”، يقول جلال فرزان.. أريد اليوم أن أنسى وأسامح، ولكن أن أبقى مصان الكرامة، تحميني الدولة، وينصفني القانون، عندها ستتحقق العدالة والحرية التي نتوق إليها منذ أيام النظام المخلوع، واليوم وبعد تحرير سوريا من الاستبداد فإن ما نرجوه اليوم جميعاً هو بلد آمن سالم يتّسعنا جميعنا بكل مكوناتنا.