الثورة – باريس- أحمد صلال ك
“ضربة معلم” حقيقية لهذا الفيلم التونسي الذي يجمع بشكل رائع بين ملامح الإثارة والدراما الاجتماعية.
لا تزال آية، في العشرينيات من عمرها، تعيش مع والديها في جنوب تونس، وتشعر بأنها محاصرة في حياة بلا آفاق، في أحد الأيام، تتحطم الحافلة الصغيرة التي تتنقل بها يومياً بين مدينتها والفندق الذي تعمل فيه، ولأنها الناجية الوحيدة من الحادث، تُدرك أن هذه قد تكون فرصتها لبدء حياة جديدة، تلجأ إلى تونس العاصمة بهوية جديدة، لكن كل شيء سرعان ما ينهار عندما تصبح الشاهدة الرئيسية على خطأ فادح للشرطة.
الوصول إلى تونس العاصمة لبدء حياة جديدة ليس بالأمر الهيّن، خاصةً عندما يُفترض أنك ميت في حادث سيارة مأساوي، هذه هي مأساة آية، التي نجحت بأعجوبة في النجاة من حطام سيارة أُعلن عن وفاة ركابها على الفور، إلى أن التقطها شخص غريب على جانب الطريق.
تصل الشابة إلى العاصمة التونسية، وقد أُعلنت وفاتها رسمياً، لكنها عازمة على النجاح في حياتها الجديدة، أول الصعوبات التي واجهتها كانت العثور على سكن، وانتهى بها الأمر بالعيش في غرفة مشتركة مع صاحبة منزل مُرحّبة للغاية، تُعرّفها على حياة تونس الليلية وشبابها.
تدور أحداث الدراما تحديداً خلال سهرة في ملهى ليلي راقٍ، حيث تجد نفسها، رغماً عنها، في قلب خطأ فادح من الشرطة.. “عايشة” ليست مأساة بسيطة، فخلف هذه الوفاة، التي لم تكن عرضية تماماً، يتردد صدى الربيع العربي، إذ نجح الشباب التونسي في الإطاحة بالسلطة التي جعلت البلد غارقاً في الفساد والحرمان من الحرية بمغادرتها البلدة الصغيرة التي عملت فيها آية في فندق سياحي، تكتشف حياة حضرية مزقتها المخدرات والعنف، التناقض قاسٍ، خاصةً من الشرطة العنيفة وسرعان ما تجد نفسها في صراع مع حقائق بائسة أخرى لم تتخيلها منذ مسقط رأسها.
لا بد من الإشادة بوتيرة العمل وإبداع السيناريو، اللذين يضفيان على القصة طابعاً خاصاً، وقد تميز مهدي برصاوي ببراعة بفيلمه الروائي الطويل الأول، “ابن”.
ولم نكن مخطئين حين اعتبرناه مخرجاً واعداً، لقد قدّم المخرج عملاً مؤثراً بالفعل، بفضل كتابة دقيقة ومتميزة تُبقي المشاهد في حالة تشويق من البداية إلى النهاية، وكما في فيلم “ابن”، يتلاعب المخرج بالتوترات الاجتماعية والسياسية التي تُسحق تونس في جذورها الديمقراطية.
يُصوّر الفيلم الشرطة على أنها فاسدة ووحشية، تُغذّي عملياتها من خلال ضحايا زائفين، وفي المقابل، تُعيّن مرتكبي جرائم يتناسبون مع الموقف الرسمي للدولة، ينخرط مهدي برصاوي بشجاعة في هذه الرواية المتوترة، ويُرسّخ غموض بلد يتردد بين تحرر شعبه والانكفاء الديني أو السياسي الرجعي.
عنوان “عايشة” بارعٌ للغاية، من دون الكشف عن نتيجة الفيلم، تتضح أهمية العنوان تدريجياً في هذه القصة التي تبدو ميؤوساً منها، نجد كاتب السيناريو البارع، قادراً، بضربة واحدة، على عكس المأساة ومنح الخيال أملاً، بهذا المعنى، يُجسّد الفيلم الروائي الأمل الهائل الذي يُنير المغرب العربي اليوم، بشبابٍ متعطشٍ للحرية والديمقراطية والذكاء، على غرار فيلم “ابن” الذي سمحت نهايته للمشاهد بالتقاط أنفاسه، من الواضح أن مهدي برصاوي بارعٌ في كتابة الأفلام، إنه يُتقن جميع حيل السينما، من دون أن يتردد أبداً في الدقة والإبداع.
مرة أخرى، يُقدّم مهدي برصاوي للمشاهدين فيلما رائعا يُثري السينما التونسية، التي تُعتبر في نهاية المطاف غير معروفة نسبياً في فرنسا، أكثر من أي وقت مضى، يتلاعب الفيلم الروائي بأعراف وتقاليد تونس الثقافية، بلغة تُبرز نفسها كداعية للحرية وتحرير صوت المرأة، وإلى جانب كونه فيلماً سياسياً، يُخرج المخرج ويكتب عملاً يليق بأفضل أفلام الإثارة في السينما.