الثورة – مها دياب:
منذ اندلاع الحرب وعلى مدى أربعة عشر عاماً عاشت سوريا اختباراً مريراً طال كل تفاصيل الحياة، فلم تكن المحنة قاصرة على الضحايا والدمار العمراني، بل تجاوزتهما إلى تمزق الهوية وتراجع الحوار.
فالفتنة تسللت بين الجدران، وزرعت الشك والفرقة، وغيّبت الثقة بين أبناء البلد الواحد، المدارس تأثرت، دور العبادة تأثرت، وحتى الخطاب العام أصبح حائراً بين الانغلاق والانقسام، ومع نزف الدماء ونزفت القيم والألفة، تبددت صور التلاقي وانكفأ كثيرون خلف هواجس الخوف وخطابات التهديد.
ولكن سوريا، رغم كل هذا الألم، لم تفقد نبضها، ولا تزال الأصوات الحية ترفع شعاراً واحداً هو الانتماء، وتؤمن أن العيش المشترك ليس ترفاً نظرياً بل ضرورة وجودية، فسوريا تنادي أبناءها للحوار، والتسامح، والعودة إلى مائدة وطن يضمن للجميع كرامة الموقف وحماية المصير.
سوريا حررها أبناؤها بقلب واحد
وفي هذا السياق يرى الشيخ والمربي عاطف عماد من أهالي جبل الشيخ أن التاريخ السوري مليء بالمواقف الجامعة التي جسدت وحدة الإرادة، ولاسيما خلال ثورات التحرر التي شارك فيها الجميع من مختلف الكيانات.
وأكد خلال اتصال مع صحيفة الثورة أن سوريا حررها أبناؤها بقلب واحد، وبقي الوقوف ضدّ التقسيم فعلاً وطنياُ لا شعاراً، وأضاف: إن الطريق لصد الفتنة لا يكون بالقوة وحدها، بل بالحوار المنظم الهادف، وبمشاركة كل الاطياف والمكونات، ويعتبر أن الحوار الحقيقي هو الذي يبنى على الإصغاء، وعلى احترام الاختلاف، وعلى تقبل الآخر كجزء من الحل لا من المشكلة.
ويعتبر أن الشعب السوري يمتلك من الأصالة ومن التجارب التشاركية ما يرشحه ليكون نموذجاً للتماسك بعد الأزمات، شرط أن يتم تتعزيز الثقة وتوحيد الخطاب.
حصن سوريا المنيع
وبعد تأكيده على دور الحوار كمسار وطني، يشدد الشيخ عماد على أن كل من يحمي سوريا من الفتنة هو شريك في بناء مستقبلها، وكل من يصون دماء السوريين هو جزء من ضميرها الحي.
ويضيف: إن العيش المشترك ليس ترفاً نظرياً، بل ضرورة عملية لاستقرار البلد، وإن السلم الأهلي هو الحصن الذي يحمي الجميع، وينادي بتشكيل مجالس أهلية جامعة، تضم المثقفين والدينيين والتربويين، من أجل رسم خارطة تعايش تضمن مشاركة عادلة، وتهدئة الخوف، واستعادة وحدة القرار الشعبي.
الدين يؤيد التعدد ويحمي الإنسان
من جانبه يرى الدكتور علاء الدين الزعتري أن الإسلام منذ بدايته دعا إلى العيش المشترك، وأسس لمجتمع متنوع يزدهر بالحوار لا بالصراع، ويستدل بأحاديث نبوية وآيات قرآنية صريحة، كقوله تعالى: “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”، على أن التنوع سنة كونية، وأن الفتنة مرفوضة دينياً وأخلاقياً.
ويشدد على أن حماية الأبناء من خطاب الكراهية والتطرف هي واجب شرعي، وأن تعليمهم قيم المحبة والتسامح جزء من الرسالة التربوية التي يجب أن تتبناها المدارس والإعلام والمؤسسات الدينية.
ويؤمن أن التنشئة السليمة هي جدار الصد الأول ضدّ التطرف، وأن احتضان الاختلاف يسهم في تعزيز الاستقرار، ويحول دون تفكك المجتمعات المحلية.
المحبة ضمان للسلم الأهلي
بدوره يرى الزعتري أن نشر المحبة بين الناس ليست فضيلة فردية فحسب، بل واجب اجتماعي يحمي المجتمع من التآكل والانقسام، ويؤمن بأن لكل فرد وكل مكون في سوريا مكانه، وأن السلم الأهلي يبنى على العدالة وعلى فهم حقيقي للدين بوصفه دعامة إنسانية لا وسيلة إقصاء.
ويقترح دعم مناهج تعليمية تربط بين القيم الروحية والمجتمعية، وتمنح الأطفال لغة للحوار، لا شعارات للتصنيف، وتشجّع على التفاعل بدلاً من الانكفاء.
سوريا لكل أبنائها
وفي الختام، يلتقي صوت الشيخ عاطف عماد بصوت الدكتور الزعتري على نقطة جامعة، وهي أن سوريا لا تنهض إلا بوحدة أبنائها، ولا تحمى إلا إذا اجتمع صوت العقل والحكمة والمبادرة.
فبناء وطن آمن يبدأ من نبذ الفتنة، وفتح المجال أمام الكلمة الصادقة، والمواقف المسؤولة، التي تحمي الإنسان أولاً، وتحترم التنوع أساساً وترفض التصنيف والانقسام بكل أشكاله.
ومن يزرع المحبة يحصد السلام، ومن يبني جسراً مع الآخر، يربح وطناً عادلاً يحتوي الجميع، ويكفل لأبنائه محبة وكرامة مصانة.
فسوريا رغم الجراح ما زالت تنبض بالحياة، تنادي من يؤمن أن الحوار أقوى من السلاح، وأن الأمل ليس وهماً، بل قرار وطني يصنع كل يوم، بكلمة صادقة، وموقف مسؤول، وقلب يحب الجميع من دون استثناء.