الثورة – غصون سليمان:
لم يكن اللقاء مجرد حضور، والاستماع إلى ندوة تخصصية فيها من المفردات ما يغري للبحث عن تفاصيل مصطلحات تحمل في جوهرها الكثير من سلوكيات يومية متعبة إلى حد ما يمارسها الناس كلٌّ حسب معرفته سواء أكانت شخصية أم أسرية أم مجتمعية لينبري لها الاختصاصيون، بل كان اللقاء حواراً تفاعلياً بين مجموعة متميزة من أهل الاختصاص في مجال التربية والإرشاد النفسي وطب الأسرة وغيرها.. فعلى مدى ساعتين من الزمن تنوعت عناوين وبنود الندوة العلمية التخصصية حول نظرية العلاج النفسي الفطري واستخداماتها النفسية والاجتماعية والأسرية والتربوية، قدمها الدكتور موسى الزعبي استشاري الطب النفسي، ومؤسس العلاج النفسي الفطري، خبرة ستة عشر عاماً بمركز “مطمئنة” ومستشفيات “الأمل” بالرياض، مؤلف وكاتب مبدأ العلاج النفسي الفطري.
انطلق الزعبي بداية من أن الخلل بإشباع القيم الفطرية يؤدي إلى اضطراب معرفي وسلوكي وعاطفي واضطرابات نفسية.
فالعلاج النفسي الفطري يتمحور على مفهوم القيمة مقابل مفهوم المعرفة، فالقيم تشكل المادة الخام أو المادة ما قبل الأفكار التلقائية، فيما الخلل المعرفي هو مجرد عرض لمرض وخلل بالقيم الفطرية، وبالتالي علاج السبب يؤدي لتحسن الأعراض، وكل اضطراب نفسي هناك قيمة فطرية أساسية فيها خلل تسبب الاضطراب.
وحسب الدكتور الزعبي يتم معرفة الخلل بالقيمة من خلال فنية الحوار الفطري وسبر الخريطة النفسية للمريض بالاضطرابات النفسية، والتي هي قيم وجودية وقيم خلقية وإصلاحها فطرياً يؤدي إلى تحسين الأعراض النفسية، حول موته وحياته، صحته ومرضه، وكرامته ورزقه، وقيم العدل والخير.
محورا القيم
واستعرضت الندوة بشكل مفصل النظرية الفطرية التي تعتمد على محوريين أساسيين يشكلان محور القيم الوجودية والخلقية الفطرية وهما:
أولاً – الأنطولوجيا، أي القيم الوجودية كوجود الإنسان، ومصيره، وغاية وجوده وهدفه بهذه الحياة.
ثانياً الأكسيولوجيا، أي القيم الخلقية وهو مبحث الخير والفضيلة والجمال والقيم الحسنة، كالعدل، والصدق، والكرم وغيرها وهي من وظيفة الغرائز الفطرية.
بينما تعتبر الإيبستمولوجيا أو المعرفة خللاً ثانوياً بشكل عام للخلل الانطولوجي والأكسيولوجي، أي القيم الفطرية، وهي قيم الوجود المتعلقة باعتقاد الإنسان عن أصله وخالقه وهدفه في هذه الحياة ومصيره بعد الموت، ومن بيده حياته وموته والقيم الخلقية وكرامة الإنسان ورزقه، وبالتالي فإن أي خلل بإشباعها بشكل سوي فإنه يسبب اضطراباً معرفياً ونفسياً وسلوكياً وعاطفياً عند الشخص، وكل اضطراب نفسي فيه خلل بقيمة من هذه القيم.
يشبه الجسد
استشاري الطب النفسي أوضح أن الإنسان يشبه جهاز الحاسوب لناحية علاقة الجسد والنفس والروح فطرياً.. وذكر في توصيفه أن جسم الحاسوب يشبه الجسد الذي يشكل الوعاء لغرائز النفس، فيما برامج الحاسوب تشبه غرائز النفس المتنوعة التي تولد مزودة ببرامج خاصة، فيما الخريطة النفسية تمثل محتوى البرامج أي ماهية إشباع الغرائز، بينما الكهرباء هي بمثابة الروح.
وعرّف الدكتور الزعبي، “النفس”- حسب النظرية الفطرية- بأنها عبارة عن غرائز مادية موجودة بجسد الإنسان كأي عضو آخر، وكل غريزة تعطي أثراً معنوياً ومادياً، وليست النفس شيئاً غيبياً أو روحياً غير مدرك أو ميتافيزيقي، وتتكون النفس من ثلاث مجموعات من الغرائز وهي: الغرائز الفطرية ووظيفتها إشباع حاجات الإنسان الوجودية والقيمية، الغرائز العقلية وظيفتها التفكر والمعرفة، أما الغرائز الترابية الحيوانية وظيفتها إشباع حاجات الإنسان المادية، وبالتالي فإن تفاعل هذه الغرائز مع بعضها البعض ومع البيئة المحيطة خلال تطور وتبلور الشخصية يشكل الهرم المرجعي لكل شخص، وهذا الهرم يحدد ملامح الشخصية لكل إنسان وطبيعة سلوكه وتفكيره مستقبلاً.
لا شيء مصادفة
وأشار الدكتور الزعبي أن الفطرة تعريفا هي البرامج الأولية التي تكون غرائز الإنسان مزودة بها عند الولادة من قبل خالق الإنسان، وليس محض المصادفة أو مكتسبة ومتعلمة، هذه البرامج الأولية تعمل تلقائيا بحسب العمر وتعتبر ضرورة بديهية وركيزة أولية لكسب العلوم.وحسب الخريطة النفسية فإن هناك برامج عالمية ومشتركا إنسانيا بين جميع البشر، وليست خاصة بجيل أو حضارة أو ثقافة معينة، هذه البدهيات تكون إما قيما أخلاقية مطلقة كمفهوم العدل، أو رياضية كمية كمفهوم العدد أن الواحد نصف الاثنين وكذلك البرامج الأولية المزودة بها بقية الغرائز الأخرى.
معظم الغرائز الفطرية وفق ما ذكره الدكتور الزعبي تعمل بسن البلوغ وهذا يفسر ارتفاع الحساسية عند المراهق وضرورة التهيئة المسبقة لعمل هذه الغرائز.فكل غريزة فطرية تكون مزودة ببرنامج خاص بمثابة لاوعي أولي، فغريزة السببية والغانية تفرض على الإنسان أسئلة ملحة تتفتق وتعمل عند البلوغ من أوجده ؟ وهدفه ومهمته بهذه الحياة؟ وما مصيره بعد الموت؟ وأن هناك شيئاً بالوجود يجمع جميع صفات الكمال والقوة والعظمة.
وأضاف: إن غريزة الكمال تولد معنى الكمال المطلق، وغريزة العدل تولد معنى العدل المطلق، وغريزة الجمال معنى الجمال المطلق، ومثلها الغرائز المعرفية والغرائز الترابية تكون مزودة ببرامج خاصة فطرية.
وحول علاج المشكلات الأسرية والاجتماعية، نوه الدكتور الزعبي إلى أن أي مشكلة أسرية يتم تفكيكها إلى أربعة محاور حسب المدرسة القطرية أولاً، مرض نفسي كاضطراب شخصية شكاكة، أو وسواسية عند أحد الزوجين، أو اضطراب على مستوى الغرائز الترابية مثل زواج بالإجبار قرابة وعدم توافق جنسي وعاطفي، اضطراب معرفي وينجم عن اختلاف العادات والتقاليد بين العوائل والمناطق .أو اضطراب فطري بالقيم حول صورة المقدس والقيم الخلقية واحتكام الآخرين للدين.
مرحلة الطفولة
ولفت الدكتور الزعبي في مجال التربية ومرحلة الطفولة حسب تطور الغرائز فإنها تقسم لثلاثة مراحل، مرحلة الطفولة الأولى الاستدلال المادي حيث يعتمد النمو النفسي وتبديل السلوك على المنبهات الحسية المادية عن طريق الحواس الخمسة وضرورة إشباع هذه الغرائز بهذه المرحلة بالأشياء المحسوسة.
مرحلة الطفولة الثانية وتقوم على الاستدلال المعرفي، إذ تبدأ عمليات الاستدلال الذهني المجرد من خلال الربط بين الأمور، وبعد مرحلة الطفولة الثالثة وما بعد الاستدلال الأخلاقي تبدأ عمليات الاستدلال القيمي الخلقي ومعرفة الحلال والحرام وتتجلى هذه بشكل واضح مع البلوغ وبدء التمييز بين الذات والآخر.