الثورة – تحقيق نيفين أحمد:
صيف اشتدت فيه موجات الحرّ.. واشتعلت فيه الغابات بسرعة غير مسبوقة، وقف رجال الدفاع المدني في الساحل السوري كجدار الصد الأول، يواجهون اللهب بأدوات بسيطة، ولكن بقلب لا يعرف التراجع.. فإن كان هذا الموسم تميز بحجم الحرائق والخسائر الهائلة، فإنه تميز أيضاً بروح وطنية واجهت النار والموت بإرادة صلبة وتصميم لا يعرف للحفاظ الحياة.
إنهم عناصر الدفاع المدني الذين أخمدوا النيران وحدّوا من توسّعها وأنقذوا ما يمكن إنقاذه في ظل ظروف شديدة الصعوبة.
الجميع يعلم أنه بين أواخر حزيران ومطلع تموز اندلعت سلسلة من الحرائق الضخمة في ريف اللاذقية التهمت أكثر من 16 ألف هكتار من الغابات والمناطق الحراجية.
في هذا التحقيق الصحفي نتابع قصصاً وحكايات تروى للمرة الأولى..
على ثلاث جبهات
تركّزت الحرائق الأكبر في مناطق قسطل معاف، ربيعة، وجبل الفرلق، وهي مناطق جبلية شديدة الوعورة، ما جعل الوصول إليها صعباً، خاصة في ظل غياب الطرق الحراجية الكافية ووجود ألغام ومتفجرات قديمة في بعضها، بحسب ما أكده مدير الدفاع المدني في اللاذقية.
يقول أحد عناصر الإطفاء: “في حريق قسطل معاف اضطررنا للسير على الأقدام لأكثر من ساعة مع معداتنا لأنه لم تكن هناك أي طريق للآليات.. وصلنا والنيران تحاصر قرية بأكملها، لكننا تمكنا من فتح ممر آمن لأهاليها بمساعدة الأهالي أنفسهم”.
حلول ميدانية سريعة
رغم محدودية الموارد.. وتواضع الإمكانات استطاعت فرق الدفاع المدني الحد من تمدد النيران إلى مناطق سكنية عبر مجموعة من الإجراءات العاجلة، منها:
أولاً: فتح خطوط النار حول القرى المهددة، لعزل النيران عن المناطق الآهلة.
ثانياً: إنشاء نقاط تدخل سريعة على مقربة من الجبهات النشطة.
ثالثاً: التعاون مع الأهالي والفرق المحلية لتأمين الإخلاء والإسناد.
رابعاً: الاستفادة من مخزون المياه الزراعي في القرى المجاورة لتغذية آليات الإطفاء.
وكشف مدير الدفاع المدني منير مصطفى في تصريح خاص لصحيفة الثورة أن هناك خطة متقدمة قيد التنفيذ تشمل: تفعيل نظام إنذار مبكر لمراقبة حرائق الغابات، فتح طرقات حراجية جديدة في مناطق استراتيجية، شراء آليات متخصصة بمكافحة حرائق الغابات وتجهيز فرق ميدانية إضافية.
بطولات لم تُروَ سابقاً
بعيداً عن الأرقام ظهرت خلال هذه الفترة مشاهد إنسانية مؤثرة نقلها شهود عيان من عدد من عناصر الدفاع المدني، وسُجّلت في تقارير الدفاع المدني من بينها:
حالة أولى: إنقاذ مسنّ كان عالقاً في منزله في قرية “بيت الشكوحي”، إذ قام ثلاثة عناصر باقتحام النيران وسحبه على نقالة خشبية قبل أن تنهار السقوف الخشبية من حوله بدقائق.
حالة ثانية: مساعدة عائلة تضم أطفالاً من ذوي الإعاقة في قرية “برج إسلام” على الإخلاء، إذ حُملت الكراسي المتحرّكة فوق ظهور رجال الإطفاء لنقلهم إلى منطقة آمنة.
حالة ثالثة: إسعاف أحد المزارعين المصابين بحروق متوسطة بعد محاولته إطفاء النار في أرضه، وقد قدّم له الفريق إسعافات أولية ميدانية قبل نقله بسيارة الدفاع المدني إلى المستشفى.
محمد درويشو، أحد رجال الدفاع المدني قال في حديث لصحيفة الثورة: “أثناء عملنا على إخماد النيران كنا نسمع أصوات انفجار ألغام وذخائر غير المنفجرة التي خلفها النظام المخلوع، وكنا نشعر أننا يمكن أن نخسر حياتنا بأي لحظة، وأن نكون ضحايا هذه الألغام التي يمكن أن تنفجر في وجوهنا بأي لحظة”.
يتابع: “كانت إحدى الفرق تصارع النيران أثناء هبوب الرياح حتى لا تنتقل إلى الطرف الآخر من طريق كسب، وفي تلك اللحظة وصلت حرارة النار إلى صاروخ غير منفجر، وعندما رأينا الصاروخ والنار قد وصلت إليه انبطحنا على الأرض خوفاً من الإصابة، وهذا كان من المواقف القاسية التي مرت فيها فرق الدفاع المدني أثناء إخماد النيران.
حرب حقيقية
بدوره حسام داليتو، أحد عناصر الدفاع المدني تحدث عن وعورة التضاريس وعدم وجود خطوط نار، بالإضافة لعدم وجود طرقات تساعد في مرور السيارات لمحاولة إطفاء النيران التي كانت تنتشر في الأحراج الكثيفة، وأرجع ذلك إلى الإهمال القائم منذ عهد النظام البائد، ما ساهم في صعوبة الوصول ومعالجة النيران، وأضاف: “أشجار الصنوبر ساهمت بقوة اشتعال النيران لاحتوائها على مادة صمغية، وكذلك سرعة الرياح كان لها دور سلبي جداً”.
وأشار إلى أنهم كانوا يعيشون حالة حرب حقيقة مع النيران من خلال محاصرة النيران لهم عدة مرات بسبب شدة الرياح، حيث كانت ألسنة اللهب تصل إلى أكثر من 50 متراً، لكننا كنا مصرين على إخمادها وعلى حماية المدنيين والغابات.
وكشف داليتو أن النيران قضت على الكثير من النباتات الطبية والأشجار المعمرة النادرة، إضافة للحيوانات التي كانت مهددة بالانقراض، وهذا له أثر كبير على التنوع البيئي، معبّراً عن تأثره بالمناظر التي رآها للحيوانات التي كانت محترقة بالكامل وبعضها يظهر عليه محاولة الهرب، لكنها فشلت في النجاة والتهمتها النيران وهو ماأحزنني كثيرا.
ومن الحيوانات التي نجت غزال، فأثناء استطلاع الفرق وتفقدها لبؤر النيران صادفت ذاك الغزال، وكان قد استطاع النجاة بنفسه من النار، لافتاً إلى أنه من المشاهد الإنسانية أثناء عمل الفرق صادفنا سلحفاة ميتة أثناء عمليات التبريد، كانت قد احترقت بإحدى الأحراش، كان المنظر مؤثراً ويزيد في حزننا.
وتابع درويشو: عند وصول النيران لمنطقة قسطل معاف، كان هنا بعض العوائل التي عادت لمنازلها بعد تهجير دام سنوات كان جهد وقوة الفرق متركزة على كبح النيران وعدم وصولها لمنازلهم وإجلاء العوائل من المنازل لمناطق آمنة، استطاعت الفرق إجلاء هذه العوائل من دون وجود إصابات بينهم.
كَرّ وفرّ
وقال: لم تكن فرق الإطفاء وحدها في الميدان، وفي أكثر من موقع بادر أهالي القرى وتعاونوا مع الدفاع المدني من خلال تشكيل سلاسل بشرية لنقل المياه أو المساعدة في فتح المسارات أو الإبلاغ المبكر عن بؤر الدخان.
وأضاف: حاولنا إنقاذ كل شي نستطيع إنقاذه بكل طاقتنا وإمكانياتنا،وكنا في معركة “كَرّ وفرّ” تارة تشتغل وتارة تتم السيطرة عليها، وانتهت هذه الحرائق بجهود محلية ودولية مشكورة.
رسالة مدير الدفاع المدني وعبر صحيفة الثورة
وجّه مدير الدفاع المدني رسالة مباشرة للمواطنين في المناطق الحراجية دعا فيها إلى: “التبليغ الفوري عن أي دخان، وتنظيف الأعشاب الجافة حول المنازل، والامتناع عن إشعال النيران، وهي مسؤوليات فردية تصنع فرقاً كبيراً، فالغابة ليست ملك الدولة، بل ملككم”.
وأضاف: قد تكون الحرائق قدر الطبيعة في مواسم الحر لكنها ليست قدراً محتوماً في حجمها وتأثيرها، ما جرى هذا الصيف في الساحل السوري كشف عن هشاشة بعض البنى، لكنه في الوقت ذاته أظهر صلابة الإرادة البشرية حين تضع سلامة المجتمع والطبيعة في المقدمة، والمرحلة القادمة تتطلب استثماراً جدياً في الوقاية والتجهيز، لكن الأكيد أن ما فعله عناصر الدفاع المدني هذا العام هو أكثر من مجرّد عمل وظيفي، بل هو تضحية ووفاء لوطن يحترق في غاباته، لكنه لا ينطفئ في نفوس أبنائه.