الثورة – حسين روماني
تتوزع معظم الأدوار في الموسم درامي على الأسماء ذاتها، وجوه مألوفة تملأ الشاشة، بالكاريزما ذاتها، بالأداء ذاته، وأحياناً كثيرة بالشخصيات ..أيضاً، من يتابع الدراما السورية منذ سنوات، بات قادراً على التنبؤ من سيكون “الضابط”، من ستلعب دور “الزوجة الغامضة”، ومن سيظهر كبطل أو ضيف شرف، حتى قبل أن تُعرض الحلقات الأولى.
لكن المشكلة أعمق من تكرار الأسماء أو إعادة تدوير الممثلين، نحن أمام أزمة كاستينغ حقيقية، أي أزمة في آلية اختيار الممثلين وتوزيع الأدوار، باعتبارها خطوة فنية مفصلية، لا مجرد مهمة إدارية، فلماذا تخشى شركات الإنتاج المجازفة؟ ولماذا لا يُفتح الباب لوجوه جديدة أو غير تقليدية؟ وهل حقاً لا يثق المشاهد إلا بمن يعرفه سلفاً؟ أم أن هذه مجرد ذريعة لتبرير الركود والتقليد؟
نجم واحد لعشرة أدوار!
في كثير من الأحيان، يُكتب الدور وفق الممثل، لا العكس، وهذا اختلال خطير، لأن الدراما – بوصفها فناً تمثيلياً – تقوم على التحوّل لا على التكرار، فالممثل الحقيقي هو من يتوارى خلف الشخصية، لا من تتكرر ملامحه في كل حكاية، لكننا اليوم نرى الممثل ذاته يؤدي دور الطبيب، والمحقق، والقاتل، وحتى المراهق العاشق من دون أن نشعر بفارق درامي ملموس، المشكلة ليست في اجتهاد الممثل، بل في تعوّد السوق على نجم بعينه بوصفه “ضمانة نجاح”، وكأن الكاميرا لا تثق إلا به.
ما يعكس حالة التكرار التي تلاحق بعض الأسماء كل موسم في ثلاثة أو أربعة أعمال، فتشعر أن النجومية باتت ضماناً للحضور لا لجودة الأداء ولا لملائمة الشخصية، وهنا يُصبح الممثل “ماركة تجارية”، يُستدعى لتسويق المسلسل أكثر مما يُستدعى لخدمة الدور.
يمرّ ملوحاً
المفارقة المؤلمة أن سوريا تمتلك واحداً من أقدم وأقوى معاهد الفنون المسرحية في العالم العربي، هذا المعهد العريق يخرّج سنوياً عشرات الموهوبين والموهوبات، ممن يملكون طاقة فنية هائلة وخلفية أكاديمية محترفة، إضافة إلى خريجي أقسام التمثيل في الجامعات الخاصة.
لكن ما إن يغادر هؤلاء مقاعد الدراسة حتى يصطدموا بجدار الوسط المغلق، حيث الكاستينغ في معظمه محكوم بالمحسوبيات والعلاقات الشخصية أو بحسابات السوق والمنصات، لا بجودة الأداء ولا بتجارب أداء مفتوحة تكفل تكافؤ الفرص.
خريجة قسم التمثيل في إحدى الجامعات الخاصة الفنانة نورهان حمد، تصف تجربتها مع الكاستينغ بأنها “شكلية في معظم الأحيان”.
تقول: “خضت تجربتي كاستينغ، أثناء الدراسة وبعد التخرج، لكنني وجدت أن الاختيار غالباً ما يكون محسوماً مسبقاً لمعارف المخرجين أو لخريجي المعهد العالي، حتى وإن جرت تجارب الأداء أمام الجميع، في أحد المرات أعددت مونولوجاً لكن من قيّموا الأداء لم يعرفوا عما يبحثون أصلاً، وفي تجربة أخرى أُعطينا مشهداً قبل يومين، ثم اكتشفنا لاحقاً أن الدور ذهب لممثلة معروفة، فما الجدوى من التجربة إذا كان الاختيار محسوما؟، “وتضيف، “أحياناً لا يتجاوز ما يعرضونه علينا دور كومبارس يمرّ في الخلفية بلا كلمة، حتى من دون أن يُسمع صوته.
والأسوأ أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء الرد أو الاعتذار، فتعيش أياماً وربما شهوراً على أعصابك بانتظار خبر لن يأتي، في النهاية، الوسط الفني هنا ليس له قواعد ثابتة، وكل شيء يتبدل بحسب العلاقات لا الموهبة،”باستثناء محاولات نادرة، مثل ما فعله المخرج الليث حجو في مسلسله “البطل” حين منح دفعة الخريجين أدواراً واسعة ومتوزعة بتناغم أتاح للجميع الظهور بعدل، يظل الكاستينغ في سوريا، بنظر كثيرين من أمثال نورهان حمد، فرصة مسدودة الأفق، لا تُكافئ العمل الجاد بقدر ما تكافئ شبكات العلاقات.
الخوف من الفشل أم التغيير؟
من الشائع القول إن المنتج لا يحب المخاطرة، وهذا صحيح جزئياً، لكن الأصح أن المنتج بات أسير الوصفة الجاهزة الذي يحضرها كل مخرج بمعرفته لكنها بشكل عام تنص على نجم معروف ووجه نسائي جميل مع اسم كاتب قوي يعادل عمل يُباع للمحطات، لكن السؤال هل هذه الخلطة لا تزال فعّالة فعلًا؟
فالواقع يقول غير ذلك، حتى الجمهور نفسه بات يُعبّر عن ضجره من التكرار، كثيرون يقولون: “حبّينا هالممثل، بس شبِعنا منه”، فهل المطلوب أن “يشبع” السوق من وجه معين حتى يُستبدل؟ أم أن التجديد يجب أن يكون مبدأ فنياً ثابتاً، لا مجرد رد فعل على الملل؟، المشكلة أن الخوف من التغيير يجعل السوق يراوح في مكانه، في وقت تتطور فيه الدراما العالمية والعربية بشكل متسارع، سواء على مستوى النصوص، أم التمثيل، أم أشكال الإخراج والإنتاج.
ولكن الدراما السورية تحتاج تجديد الوجوه وكسر احتكار الكاستينغ، فالمواهب الجديدة شرط لنهضة حقيقية وشجاعة في التجربة.
حبر على ورق
يرى الناقد الفني جوان ملا أن تجربة الكاستينغ في سوريا موجودة شكلاً، لكن في جوهرها مثقلة بالعلاقات الشخصية والمعارف “غالباً ما يُختار اثنان أو ثلاثة فقط من بين المشاركين في التجارب، بينما يكون الباقون قد حُسمت أدوارهم مسبقاً عبر قنوات غير معلنة”، يقول ملا.
ويؤكد أن الكاستينغ أداة مهمة وضرورية حين تُبنى على الشفافية والنزاهة، لكنها في سوريا ـ كما في معظم العالم العربي ـ غالباً ما تُدار وفق حسابات العلاقات، مع فارق أن دولاً عربية أخرى تشهد تنوعاً أكبر في الإنتاج، ما يتيح فرصاً أوسع وإن ظلّ الطابع الشكلي هو الغالب.