الثورة – ثورة زينية:
على الرغم من الجهود التي تبذلها محافظة دمشق بشكل شبه يومي لتعزيز نظافة نهر بردى، وصيانة المرافق المحيطة به، فإن المشهد العام للنهر لايزال يوحي بتراجع بيئي حاد، لا تخطئه العين، ولا تخففه محاولات التجميل الظاهري.
عمال النظافة والصيانة في محافظة دمشق يتنقلون بين الضفاف.. والآليات تجرف ما أمكن من النفايات المتكدسة في المجرى، ومشاريع التأهيل تعلن بين الحين والآخر، لكن النهر الذي شكل لقرون رفيق دمشق الدائم، مازال يختنق بين شح المياه وتزايد التلوث في ظل غياب استراتيجية شاملة حتى الساعة تضمن إحياءه لا فقط تنظيفه.
مرض بيئي مزمن
يقول أستاذ التخطيط البيئي في جامعة دمشق الدكتور علي السمان في حديثه لصحيفة الثورة: لقد تحول بردى من رمز للجمال والحياة إلى مصدر للروائح الكريهة وبيئة طاردة، ليس بسبب عامل واحد، بل نتيجة سلسلة من التراكمات المناخية والبيئية والإدارية ابتداء من جفاف المنابع إلى تفاقم التعديات البشرية، مروراً بتراجع كفاءة البنية التحتية ليجد هذا الشريان التاريخي نفسه أمام واقع مهدد يعجز معه التنظيف الدوري والصيانة الموضعية عن تغيير الصورة بشكل جذري.
وأضاف: ما ينفذ اليوم من أعمال على أهميته لا يعالج جذور المشكلة، فنحن نتعامل مع أعراض مرض بيئي مزمن، فيما أصل الداء يكمن في مصادر التلوث والانخفاض الحاد في المنسوب المائي، موضحاً أن بردى لم يعد نهراً بمفهومه الطبيعي، بل تحول إلى مجرى مفتوح لتصريف مياه الصرف الصحي في بعض المناطق.
تدوير الأزمة ذاتها
وكانت محافظة دمشق قبل أعوام قد أعلنت انطلاق مشروع إحياء نهر بردى بالتعاون مع المعهد العالي للتخطيط الإقليمي وجامعة دمشق، والذي يتضمن إعادة تأهيل المجرى في مقاطع محددة، ورفع المصبات العشوائية وإنشاء محطات للمعالجة البيئية باستخدام تقنيات نباتية، إضافة إلى إعادة تنظيم الحرم النهري، وقد بلغت الكلفة التقديرية للمرحلة الأولى آنذاك نحو 8 مليارات ليرة، لكن التنفيذ بقي محصوراً ضمن مناطق محدودة، وسط تأخر باقي المراحل لأسباب تتراوح بين التمويل والصلاحيات الإدارية، وقبله، وفي عام 2014 كانت وزارة الإدارة المحلية آنذاك خصصت مبلغ 14 مليار ليرة لإعادة إحياء النهر لكن كل هذه المليارات ابتلعتها حيتان الفساد من دون أن ينال النهر أي نصيب من هذه المشاريع.
المتخصص في إدارة المياه المهندس خالد حسين يرى أن المشكلة الأساسية تكمن في فلسفة التعاطي مع النهر، موضحاً أن التركيز على تنظيف المجرى داخل المدينة من دون معالجة مصادر التلوث في المنبع، يعني أننا نعيد تدوير الأزمة ذاتها من دون حلول جذرية.
وبيّن أن الروافد التي كانت تغذي بردى مثل نبع الفيجة، ونبع عين الخضراء تراجعت إلى أدنى مستوياتها خلال العقد الأخير نتيجة تغيرات مناخية، وجفاف شبه متكرر، إضافة إلى استنزاف مفرط من قبل الاستخدامات السكنية والزراعية، ما أدى إلى انخفاض تدفق المياه وركودها، وجعل أي تلوث أكثر تأثيراً وانتشاراً.
دائرة مفرغة
الباحثة البيئية مرام عزام، تلفت إلى أن المعالجة البيئية الحقيقية لا يمكن أن تقتصر على البنية التحتية فقط ما لم يتم إشراك المجتمع المحلي، وتعزيز الثقافة البيئية، وتفعيل أدوات الرقابة والمساءلة، مضيفة: سنظل ندور في دائرة مفرغة من الإصلاحات الشكلية طالما أن الأمور تقتصر فقد على التنظيف والتعزيل الدوري لمجرى النهر، وإجراءات بسيطة ومعالجات سطحية.
وأكدت أن التحدي الأبرز يبقى في التنسيق بين الجهات المختلفة من محافظة دمشق إلى وزارات الري والبيئة والإدارة المحلية، إذ يؤدي غياب التكامل المؤسسي إلى تأخير القرارات وإضعاف تنفيذ المشاريع بل وتكرار الجهود من دون نتائج ملموسة، منوهة بأنه وعلى الرغم من ذلك لا تخلو الصورة من بصيص أمل، فقد بدأت بعض محطات المعالجة الجديدة في جمرايا والهامة تتبلور على أرض الواقع، وهناك تصميمات بيئية متقدمة تقترح استخدام النباتات المائية كوسيلة لتنقية المياه بشكل طبيعي، غير أن الرهان الأكبر حسب الباحثة عزام يبقى في مدى تحول الإرادة الحكومية إلى التزام تنفيذي طويل الأمد، يستند إلى الشفافية والاستدامة والمشاركة المجتمعية.
إن إحياء نهر بردى لا يعني فقط إعادة تدفق المياه إلى مجراه بل استعادة علاقة مدينة بأحد أعمدتها الحضارية، فالنهر بما يحمله من ذاكرة وموارد، يستحق أن يعامل ككنز بيئي وإنساني.. لا مجرى مهمل تنتظر عليه عربة النظافة في الصباح، وتنساه المؤسسات عند أول قطرة مطر.