الثورة
شكّلت تصريحات رئيس الجمهورية السيد أحمد الشرع في نيويورك خلال القمة الخامسة عشرة لـ«كونكورديا» ملامح رؤية متكاملة لسوريا في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد البائد، إذ قدّم الشرع نفسه في هذه الجلسة بوصفه قائد مرحلة إعادة البناء، مستنداً إلى خطاب مزدوج: إقرار بالمآسي التي عانى منها السوريون، وإبراز إنجازات «تحرير سوريا بأقل الخسائر» بفضل خبرة ميدانية اكتسبتها المعارضة في إدلب.
اللافت في خطاب الشرع أنه جمع بين لغة الاعتراف بالاضطرابات الموروثة عبر ستة عقود، ولغة التخطيط التدريجي لحلها، في إشارة إلى أن دمشق الجديدة لا تعد بحلول فورية بل بمسار طويل الأمد قائم على التدرج والحوكمة.
وحملت التصريحات في مقابلة مباشرة مع المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ديفيد بترايوس، إشارات قوية إلى تقاطع مصالح غير مسبوق بين سوريا والغرب والولايات المتحدة، حيث أشاد الرئيس الشرع بقرار إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات جزئياً، وطالب الكونغرس باستكمال الخطوة نهائياً.
هذه الرسائل الموجهة من نيويورك، في منتدى يجمع مستثمرين وخبراء وصنّاع قرار، توحي بأن دمشق تراهن على بوابة الاقتصاد والاستثمار لإعادة الاندماج في النظام الدولي، وليس فقط عبر القنوات الدبلوماسية التقليدية، كما جاء تكرار الحديث عن «علاقات هادئة مع الجميع» ليعكس رغبة في الانتقال من صورة «سوريا الدولة المهدَّدة» إلى صورة «سوريا الدولة الشريكة»، وهو تحوّل يسعى الرئيس الشرع إلى تكريسه داخلياً وخارجياً.
من النقاط البارزة في حديث الرئيس الشرع، تأكيده على حصر السلاح بيد الدولة بوصفه الضامن الأساس لوقف النزاعات، وإعلانه تشكيل لجان لتقصي الحقائق في أحداث الساحل والسويداء، والسماح بدخول لجان تحقيق دولية، وهذه الإجراءات ترسل رسائل طمأنة للداخل السوري والمجتمع الدولي بأن الدولة الجديدة تريد القطع مع ممارسات الإفلات من العقاب، وتؤسس لمرحلة محاسبة وانضباط قانوني.
كما تطرق الرئيس لملف «قسد»، حيث أكد عرض دمج القوات الكردية في الجيش السوري مع ضمان الحقوق، لكنه أقر بوجود تباطؤ في التنفيذ، داعياً إلى حلول سلمية سريعة، لا سيما الاتفاق الموقع في 10 آذار الماضي، ويعكس هذا الموقف إدراكاً بأن نجاح التجربة السورية الجديدة يمرّ عبر إدارة التنوع الإثني والسياسي بعيداً عن المحاصصة التقليدية التي رفضها الرئيس صراحةً، مفضلاً «حكومة كفاءات» على «حكومة حصص».
في محور العلاقات مع إسرائيل، بدت تصريحات الشرع بمثابة «خطاب ضبط توقّعات»:
تأكيد استمرار الاحتلال والاعتداءات على الجولان والأراضي السورية، مقابل تأكيد سعي دمشق إلى تجنب الحرب في مرحلة البناء.
ومن هنا جاء حديثه عن التهدئة كمدخل لإعطاء سوريا فرصة للنهوض، مع وضع شرط واضح هو انسحاب إسرائيل من الأراضي السورية وإمكان معالجة المخاوف الأمنية بالمباحثات. هذه المقاربة لا تغلق الباب أمام المفاوضات لكنها تضعها في إطار «الاختبار»: هل لدى إسرائيل مخاوف أمنية أم أطماع توسعية؟
الشق الاقتصادي في تصريحات الرئيس الشرع كشف عن إدراك لأهمية التنمية كرافعة للاستقرار السياسي، إذ شدد على أن سوريا تملك الكوادر القادرة على إعادة بناء الاقتصاد، لكن تحتاج إلى رفع العقوبات لتمكينها من ذلك، والرسالة موجهة إلى المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية التي تحضر قمة كونكورديا، مفادها أن دمشق الجديدة تبحث عن «فرصة حياة» ثانية وليست مصدراً للتهديد أو الفوضى.
تحمل هذه التصريحات جملة من الرسائل منها للداخل السوري: أن الدولة في طريقها لبسط سيادتها على السلاح وتحقيق العدالة والمساءلة، وللمكوّن الكردي: ضمان الحقوق ضمن إطار الدولة الواحدة، وللغرب: استعداد للتعاون والانفتاح مقابل رفع العقوبات ودعم الاستثمار، ولإسرائيل: اختبار جدّيتها في السلام مقابل انسحاب من الأراضي المحتلة.
خطاب الرئيس الشرع في قمة «كونكورديا» كان بمثابة منصة لإطلاق «خريطة طريق» لسوريا ما بعد الحرب: أمن داخلي وعدالة انتقالية، إدارة للتنوع، تهدئة خارجية، وانفتاح اقتصادي، وهذه العناصر إذا ما ترافقت مع خطوات تنفيذية ملموسة يمكن أن تعيد صياغة موقع سوريا في المشهد الإقليمي والدولي وتؤسس لمرحلة استقرار ونهوض طال انتظارها.