الثورة – تحقيق حسن العجيلي:
“الخدمة مجانية.. هذا صحيح، المركز لا يطلب منا مالاً، ولكن هل المجانية تعني أن ننتظر ساعات؟ أو ألا نجد الدواء والخدمات المطلوبة؟”، بهذه الجملة افتتح محمد سعيد، وهو موظف متقاعد يبلغ من العمر 62 عاماً، حديثه مع صحيفة الثورة، مؤكداً أنه يراجع أحد المراكز الصحية في حلب بشكل منتظم لمتابعة حالته الصحية.
في هذا التحقيق الصحفي نطلع على واقع الخدمات في المراكز الصحية بمدينة حلب.
لا أحد من المواطنين ينكر أهمية الدور الي تقوم به هذه المراكز، بل يراها الناس، وخاصة الفقراء حاجة ملحّة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تشهدها سوريا، لكن البعض يعبّرون عن استيائهم من التفاوت الكبير في نوعية الخدمة.
يقول المواطن محمد سعيد: “مرة يكون التعامل ممتازاً، ومرة لا تجد حتى من يردّ عليك، لا نظام واضحاً، أو معاملة واضحة في المراكز الصحية بحلب”.
وتُعد المراكز الصحية المنتشرة في مدينة حلب وريفها جزءاً أساسياً من منظومة الرعاية الصحية الأولية، وتقدم خدمات طبية كبيرة للمواطنين، وتسهم في تخفيف الضغط عن المستشفيات العامة، إلا أن جودة الخدمات الصحية في هذه المراكز هي مثار نقاش وتساؤلات كبيرة يطرحها المواطنون بشكل دائم، وعلى الرغم من اعتماد شريحة كبيرة من السكان على هذه المراكز لتلقي الرعاية الصحية الأولية، إلا أن الواقع الحالي يعكس خللاً واضحاً في القدرة على تلبية احتياجات المرضى في الكثير من الأحيان.
ضيف خفيف
تؤكد صفاء الخالد، وهي أم لثلاثة أطفال أنها تضطر للذهاب إلى المركز الصحي في وقت مبكر للحصول على دور لمعاينة أحد أطفالها في حال مرضه، مؤكدة أن ساعات دوام الطبيب قصيرة، مطالبة بوجود أكثر من طبيب ليداموا على ورديات.
جهاد غازي، موظف حكومي في الخمسينات من عمره، تحدث عن تجربته في مراجعة المراكز الصحية قائلاً: أكثر من مرة اضطررت للعودة إلى المنزل دون فائدة، لأن الطبيب الاختصاصي يغادر باكراً، قيل لي أن الدوام الرسمي ينتهي في الواحدة ظهراً، لكنني وجدت أن بعض الأطباء يختفون قبلها”.
ويضيف: “اضطر أحياناً أن أزور المركز مرتين أو ثلاثة لحالة واحدة، فقط لأن الطبيب غير موجود، أو أن هناك ازدحاماً شديداً، هذا يتعبني ويضيع وقتي”.
كذلك يؤكد عامر وحيد، وهو موظف متقاعد، هذه النقطة بقوله: “من غير المعقول أن يكون دوام الطبيب الاختصاصي ساعتين فقط، هذا يعكس استهتاراً بصحة المواطن، يجب أن تكون هناك رقابة ومتابعة لالتزام الكادر بساعات العمل”.
تفاوت في المعاملة
ليست المواعيد والغياب فقط ما يثقل كاهل المرضى، بل أحياناً أيضاً الطريقة التي يُعاملون بها، تقول سهام حسين، وهي أم لطفلين: أزور المركز لإعطاء اللقاحات لطفلي، وألاحظ اختلافاً كبيراً في معاملة الكادر، بعضهم لطيف ويشرح التفاصيل، وآخرون يتحدثون بحدة، وكأنهم يؤدون واجباً ثقيلاً.
أما هبة عبد الهادي، فتؤكد أن بعض الكوادر الطبية في المراكز الصحية، سواء أطباء أم ممرضين لا يتعاملون بإيجابية مع آلام المريض، والبعض قد يهزأ منهم أو من طريقة شرحهم لآلامهم، مضيفة ندرك أن الكادر يعمل في ظروف صعبة، لكن أيضاً يجب أن يكون هناك احترام للمريض، فالناس لا يطلبون المعجزات، بل معاملة إنسانية، وبعض الصبر لحين أن نشرح لهم حالتنا الصحية.
أحياناً لا يتوقف الأمر عند الكادر البشري، بل يمتد ليشمل الخدمات الطبية الضرورية.. تقول فاطمة عبد القادر، وهي مريضة بالسكري: في كل مرة أطلب فيها تحليل دم، يقول لي الطبيب: التحاليل غير متوفرة حالياً، فأضطر للذهاب إلى مخبر خاص ودفع مبلغ كبير، متسائلة: كيف نتابع حالتنا الصحية دون فحوصات؟ وهل من المعقول أن تكون الخدمات الصحية مجانية ونذهب للمخابر الخاصة لندفع مبالغ كبيرة مع ضعف قدرتنا المعيشية؟.
واقع المراكز الصحية لا يبدو حالة مؤقتة، بل مستمرة بحسب آراء المواطنين ومعاناتهم، وهو ما يتعارض مع معايير الرعاية الصحية الأولية، وجودة الخدمات التي يجب أن تقدم للمواطنين في المراكز الصحية.
نقص في البنية التحتية
رئيس دائرة برامج الصحة العامة في مديرية صحة حلب، الدكتور فراس دهيمش، يصف دور المراكز الصحية بالأساسي في تقديم الخدمات الطبية للمواطنين، وتخفيف الضغط عن المشافي، مؤكداً وجود مجموعة من التحديات التي تواجه عمل المراكز الصحية، أبرزها الحاجة إلى الترميم والتأهيل للكثير من المراكز الصحية، وخاصة في الريف، مبيّناً أنه من أصل 226 مركزاً صحياً في حلب وريفها، هناك فقط 116 مركزاً فاعلاً، أما بقية المراكز فهي بحاجة إلى ترميم جزئي أو كلي حسب حجم الأضرار التي تسبب بها الحرب والتدمير الذي خلفه النظام البائد.
وأوضح الدكتور دهيمش أن هناك أكثر من 110 مراكز بحاجة إلى تدخل عاجل، إما من حيث البنية أو التجهيزات، مضيفاً: لكننا نواجه تحديات كبيرة تتعلق بالنقص الحاد في الكوادر، والأجهزة وحتى المواد الأساسية.
وحول تحسين الجودة، أوضح الدكتور دهيمش أن دائرة برامج الصحة العامة وبدعم من مديرية صحة حلب تسعى لتحسين الجودة، لكن الأمر خارج عن إرادتنا، بسبب قلة الموارد البشرية والتجهيزات الطبية.
العيادات المتنقلة
ويتابع الدكتور دهيمش: ورغم هذا الواقع هناك نقاط مضيئة بعمل دائرة برامج الصحة، وجهود تبذل لرفع سوية الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، والوصول إلى أغلب المناطق.
ومن أبرز هذه النقاط انتشار العيادات المتنقلة في الريف، والتي تقدم خدمات أساسية تشمل الأطفال والنسائية والداخلية، إلى جانب توزيع الأدوية مجاناً.
كما توجد عيادات تخصصية لمرضى اللايشمانيا، السكري، السل، والأسنان، لكنها تتوزع على الأرياف بحسب الأولوية والإمكانات المتاحة، ونحاول تغطية كافة المناطق التي لا يوجد فيها مراكز صحية أو بعيدة عنها بهذه العيادات لتقديم الخدمات الصحية الأولية للمواطنين، وخاصة في القرى التي تشهد عودة أهلها بعد التحرير.
خطوات تطوير عمل المراكز الصحية، على الطريق، كما أشار إليها الدكتور دهيمش، عبر خطط الترميم وإعادة التأهيل بالشراكة مع منظمات دولية، لكن هذه الخطوات تحتاج وقتاً، وربما أيضاً مساءلة حقيقية حول الأداء، والرقابة على الكوادر، وتحفيز العاملين لا مجرد لومهم.
وأمام هذا المشهد، وحتى تتطور المراكز الصحية ويتحسن أداؤها بشكل عام، لا يبحث المواطن عن خدمات فاخرة، بل عن خدمة طبية مقبولة وبحدها الأدنى.
وتتلخص مطالب المواطنين في حلب بعدة نقاط واضحة وبسيطة، أهمها: زيادة عدد الأطباء، خصوصاً الأخصائيين، وتحسين التزام الكادر بمواعيد الدوام، ورفع مستوى المعاملة الإنسانية مع المرضى، وتوفير الفحوصات والتحاليل المخبرية والصور الشعاعية داخل المراكز قدر الإمكان، والعمل على ترميم المراكز المتضررة، وتحسين توزيع العيادات المتنقلة ورفع كفاءتها.
الصحة حق لا امتياز
الصحة ليست خدمة ثانوية ولا منّة من أحد، بل هي حق أصيل، كفلته القوانين والدساتير والأديان، ومع عودة المهجرين إلى أحيائهم وقراهم لا بد من تطوير الخدمات الصحية وإعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة الصحية، من خلال التعامل الجيد وتحسين الخدمات، ورفع مستوى الجودة بشكل حقيقي لا بالتصريحات، فهل نرى قريباً مراكز صحية تليق بكرامة السوريين؟ والوقائع والأيام كفيلة بالإجابة.