الثورة – جاك وهبه:
في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة التي تمرّ بها سوريا منذ أكثر من عقد، ووسط الانهيار شبه الكامل في البنية التحتية، وتراجع أداء مؤسسات الدولة، يستمر الجدل حول مصير القطاع العام ودوره في الاقتصاد الوطني.
هذا القطاع، الذي كان يوماً ما أحد أعمدة الاقتصاد السوري، بعد تبنّي الدولة لسياسات التأميم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أصبح اليوم موضع انتقاد واسع من قبل خبراء اقتصاديين ومؤسسات رسمية وحتى بعض صناع القرار.
ولقد أدت سنوات الحرب والعقوبات وسوء الإدارة، إلى تآكل فعالية القطاع العام، وتحوله – وفق كثير من الأصوات – إلى عبء ثقيل على الخزينة وبيئة خصبة للفساد والمحسوبيات بدلاً من أن يكون رافعة تنموية، ومع تصاعد الدعوات لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري، ظهرت مطالب أكثر جرأة تدعو إلى الخصخصة الكاملة، وبيع أصول الدولة، وتحرير السوق من قبضة المؤسسات العامة التي تُتهم بالعجز والفساد وغياب الكفاءة.
قطاع فاشل
وفي هذا السياق وجّه الصناعي والخبير في الشؤون الاقتصادية، الدكتور مازن ديروان، انتقادات حادة للقطاع العام الاقتصادي في سوريا، مؤكدًاً أنه بات يشكّل عبئاً ثقيلاً على الدولة، وسبباً رئيسياً في استمرار الفساد وهدر الموارد، داعياً إلى التخلص الكامل منه وبيع أصوله بشفافية تامة.
وأكد ديروان، في منشور نشره على صفحته الرسمية على “فيس بوك”، أن ما يُعرف اليوم بالقطاع العام في سوريا لم يكن موجوداً قبل عام 1958، معتبراً أن تأسيسه جاء نتيجة سياسات “اليسار الحاقد والفاسد”، على حد تعبيره، بعد قيام الوحدة بين سوريا ومصر، بدعم من “حزب البعث والرئيس الراحل جمال عبد الناصر”.
وأوضح أن هذا القطاع لم يحقق لسوريا سوى الخسائر، وجرّ البلاد إلى عقود من الفقر والتخلف والفساد، واصفاً إياه أنه “قطاع فاشل” تم إنشاؤه على حساب دم وعرق وثروات السوريين، وأُدير من قبل من سماهم “جهلة بعلوم التسويق والإدارة”، ما أدى إلى إنتاج سلعي متدنٍ، مرتفع التكلفة، وقليل التنوع.
شفافية مطلقة
وأشار إلى أن هذا القطاع لم يعمل إلا في ظروف احتكارية، وكانت نتيجته تدمير الاقتصاد الوطني وإثقال كاهل المواطنين، كما شدد على أن الفساد والمحسوبيات والرشاوى وسوء الإدارة كانت من السمات المرافقة له منذ تأسيسه وحتى اليوم.
ودعا ديروان إلى إنهاء هذا النموذج الاقتصادي بشكل كامل، مشيراً إلى أن سوريا اليوم بحاجة ماسة لإعادة بناء بنيتها التحتية المنهارة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التخلص من القطاع العام الصناعي والزراعي، وتحويل عائدات بيع أصوله إلى الخزينة العامة.
كما طالب أن تتم عملية التخلي الكامل من القطاع العام “بشفافية مطلقة وتحت عيون جميع السوريين”، محذراً من بيع الأصول بأسعار تقل عن قيمتها الحقيقية، ومشدداً على أن بيع هذه المؤسسات هو “الضمانة الأكثر أماناً للصالح العام”، وليس استمرار تشغيلها أو حتى تأجيرها.
وانتقد ديروان كل من يدافع عن القطاع العام، واصفاً إياهم بـ”أيتام البعث واليسار”، متهماً إياهم بأنهم يحمون الفساد والمحسوبيات والتخلف.
وأكد أن “دور الحكومة ليس في إنتاج الألبان والأجبان، ولا في بيع الخيار والبندورة أو تربية الأبقار والدواجن”، وإنما يجب أن يقتصر على حماية المواطنين وتحقيق العدالة بينهم، على حد تعبيره.
ودعا ديروان للعودة إلى “جذورنا الناجحة” – كما وصفها – وإنهاء ما أسماه “التركة الماركسية بأسرع وقت ممكن”، مؤكداً أن سوريا لن تنهض من أزمتها إلا بالتخلص من هذا النموذج الاقتصادي، الذي أثبت فشله مراراً في سوريا وفي دول العالم كافة.
توجهان متعاكسان
من جهته أوضح الخبير في الشؤون الاقتصادية، فاخر قربي، في حديث خاص لـ”الثورة”، الفرق الجوهري بين الخصخصة والتأميم، مبيّناً أن هذين المفهومين يعكسان توجهين اقتصاديين متعاكسين تماماً، ففي حين يُقصد بالتأميم تحويل المرافق الاقتصادية والخدماتية الخاصة إلى ملكية عامة تُدار من قبل الدولة، فإن الخصخصة هي عكس ذلك تماماً، إذ تقوم على تحويل المرافق العامة، التي كانت تحت إدارة وسيطرة الدولة، إلى مؤسسات خاصة تُدار من قبل شركات أو هيئات لا تتبع للدولة، وقد تكون هذه العملية كلية أو جزئية، إذ تُسلم بعض المرافق بالكامل إلى القطاع الخاص من دون أن تحتفظ الدولة بأي نسبة من التملك أو الإدارة، فيما تكتفي في حالات أخرى بإبقاء الإشراف العام بيدها، وتُوكل مهمة التشغيل والإدارة إلى القطاع الخاص وفق شروط محددة واستراتيجيات تجارية.
أدوات إصلاحية
وحول دوافع اللجوء إلى الخصخصة، أشار قربي إلى أن هذا التوجه غالباً ما يُبرر بالحاجة إلى تعزيز الكفاءة الاقتصادية وتحسين جودة الخدمات، خصوصاً في ظل ما يُعاب على القطاع العام من ترهّل إداري، وبطء في الإنجاز، وتكاليف تشغيلية مرتفعة، فالمؤسسات الخاصة، بطبيعتها، تخضع لمنطق السوق وتعمل تحت ضغط المنافسة، ما
يدفعها إلى تحسين أدائها باستمرار، سواء من حيث جودة الخدمات أم التحكم في التكاليف، ويرى أن هذا العامل كان حاسماً في دفع العديد من الدول، بما فيها بعض الاقتصادات النامية، إلى اعتماد سياسة الخصخصة كإحدى الأدوات الإصلاحية الهيكلية في قطاعات متعددة مثل الكهرباء، المياه، الاتصالات، النقل، وحتى التعليم والصحة في بعض الحالات.
إضافة إلى ذلك، بيّن قربي أن الخصخصة تفتح المجال أمام استثمارات جديدة من قبل القطاع الخاص المحلي والأجنبي، ما يسهم في تحريك العجلة الاقتصادية وخلق فرص للنمو والتنمية، كما أن دخول الفاعلين الجدد إلى الأسواق قد يخلق نوعاً من الحراك الاقتصادي الذي ينعكس إيجاباً على بيئة الأعمال.
كما أشار إلى أن الخصخصة، إذا تم تنفيذها بشكل سليم وموجّه نحو خدمة المجتمع، قد تسهم في تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، خاصة إذا رافقها تحسين في مستوى الخدمات وتخفيض في تكلفتها، ما يجعلها أكثر قدرة على الوصول إلى مختلف شرائح المواطنين.
إشكالات عميقة
لكن في المقابل، لم يغفل الخبير الاقتصادي الجوانب السلبية لهذه العملية، محذراً من أن الخصخصة ليست حلاً سحرياً، بل قد تفتح الباب أمام إشكالات عميقة إذا لم تُحسن إدارتها، ومن أبرز هذه الإشكالات أن الخصخصة عندما تُطبق بروح تجارية محضة قد تؤدي إلى تراجع في توفير الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة والماء والكهرباء، إما من خلال تقليصها أو عبر رفع أسعارها، ما يجعلها بعيدة المنال عن الفئات الفقيرة والمتوسطة، فالشركات الخاصة، كما يوضح قربي، تسعى في المقام الأول إلى تحقيق الربح، وهو ما قد يتعارض مع الأهداف الاجتماعية التي تلتزم بها الدولة عادة في إدارة المرافق العامة.
ولعل من أخطر ما قد يترتب على الخصخصة- حسب رؤية قربي- هو تهديد استقرار سوق العمل، إذ تميل الشركات الخاصة إلى تقليص النفقات من خلال تقليص عدد الموظفين أو تغيير شروط التوظيف، ما قد يؤدي إلى تسريح أعداد كبيرة من العمال الذين كانوا يعملون في القطاع العام، أو دفعهم إلى قبول شروط عمل أقل من حيث الأجور والضمانات.
كما أشار إلى أن التركيز المفرط على الربح في ظل غياب رقابة صارمة قد يفاقم من حدة التفاوت الاجتماعي، إذ يصبح الوصول إلى خدمات ذات جودة عالية حكراً على القادرين مادياً، بينما تزداد معاناة الفئات المهمشة.
طويل ومعقد
وشدد الخبير قربي على أن الخصخصة ليست قراراً يمكن اتخاذه بين ليلة وضحاها، بل هي مسار طويل ومعقد يحتاج إلى دراسات معمقة واستشارات واسعة قبل الشروع في تنفيذه، وأكد أن التجارب الدولية أثبتت أن النجاح في هذا المسار مرهون بوجود إطار قانوني ومؤسساتي واضح، يضمن شفافية العملية ويُراعي الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد على حدة. كما نوّه بأن بعض الدول التي شرعت في الخصخصة قد بدأت بدراسة هذا الخيار لسنوات قبل أن تعلن عنه رسمياً، إدراكاً منها لحجم التحديات والآثار المحتملة التي قد تترتب عليه.
في المحصلة، يرى قربي أن الخصخصة، على الرغم مما قد تحمله من وعود اقتصادية مغرية، ليست خالية من التبعات الاجتماعية والاقتصادية التي قد تمسّ جوهر دور الدولة في ضمان الحد الأدنى من العدالة وتوفير الخدمات الأساسية لجميع المواطنين، وبين الاندفاع نحو آليات السوق، والحفاظ على الوظيفة الاجتماعية للدولة.
تبقى الخصخصة معادلة دقيقة تتطلب توازناً استثنائياً بين منطق الربح ومنطق الواجب الوطني.