الثورة – هنادة سمير:
بين ثورة التكنولوجيا وتبدّل مفاهيم الإدارة العامة، يظهر العمل عن بعد كأحد أبرز ملامح التحول الإداري في العالم، وكعنوان لمرحلة جديدة في الفكر الوظيفي السوري، فالمسألة لم تعد مجرّد تجربة فرضتها الظروف، بل خطوة مدروسة نحو إدارة أكثر مرونة.
نحو ثقافة إداريّة جديدة
وزارة التنمية الإدارية طرحت مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد للاستفتاء العام متضمناً أنماط العمل الحديثة، كالعمل عن بعد والدوام الجزئي، بما يعكس رغبة الحكومة في إشراك المواطنين في صياغة ملامح الإدارة المقبلة، والاستماع إلى مختلف وجهات النظر قبل إقراره رسمياً حسب بيان نشرته على قناتها على التليغرام، وأكدت أن الهدف ليس تقليد تجارب الآخرين، بل بناء نموذج سوري يستفيد من مزايا العمل عن بعد مع الحفاظ على الانضباط المؤسسي والمسؤولية العامة.
وفي هذا السياق يبين عضو لجنة صياغة مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد ومدير المعهد الوطني للإدارة العامة الدكتور عبد الحميد الخليل في حديثه لـ”الثورة” أن المشروع يتيح للمؤسسات اعتماد العمل عن بعد كخيار إداري منظم، وفق ضوابط تتعلق بالقطاعات التي تتطلب ذلك والأعمال التي يمكن إنجازها عن بعد بحسب طبيعة الوظيفة وبطاقة الوصف الوظيفي ومؤشرات أداء العمل، بما يضمن العدالة في الأداء والرقابة على الإنجاز.
الخبير في الإدارة العامة الدكتور بشير خوري أوضح أن العمل عن بعد يمثل أحد أهم مؤشرات التحديث الإداري، لأنه يعيد تعريف الوظيفة من حيث جوهرها وأهدافها، لا من حيث مكان ممارستها، وبين أن المقصود به أداء الموظف مهامه خارج مقر العمل الرسمي باستخدام تقنيات الاتصال الحديثة، بما يضمن استمرارية الخدمة العامة من دون التقيّد بالزمان والمكان، مشيراً إلى أن أهميته تنبع من مرونته العالية وقدرته على خفض النفقات التشغيلية وتحسين التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، إلى جانب دوره في تمكين فئات واسعة من المشاركة في سوق العمل، مثل النساء والأشخاص ذوي الإعاقة وسكان المناطق البعيدة.
ويؤكد خوري أن التحول نحو هذا النمط أصبح استحقاقاً يفرضه الواقع التقني والاجتماعي، مضيفاً أن الإدارة الحديثة تُقاس اليوم بقدرتها على الاستفادة من التكنولوجيا لتحقيق الكفاءة، وليس فقط بتقيدها بالمكاتب والجدران. ويتابع: إن فكرة العمل عن بعد بدأت بالانتشار عالمياً منذ مطلع الألفية، لكن جائحة كورونا عام 2020 كانت نقطة التحول الكبرى التي جعلت الدول تتبناه كخيار وطني، ففي فرنسا وكندا مثلاً، أُقرت تشريعات تنظّم ساعات العمل الرقمية وحق الموظف في قطع الاتصال بعد انتهاء الدوام، بينما طوّرت الإمارات منظومة متكاملة تتيح للموظف الحكومي العمل من أي مكان مع قياس الأداء إلكترونياً، وتشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أنّ أكثر من 60 دولة اعتمدت أطراً قانونية خاصة بهذا النمط، نظراً لما يوفره من كفاءة وتوفير في الموارد وزيادة في الإنتاجية.
من الفكرة إلى النص القانون
يظل العمل عن بعد في سوريا فكرة محدودة التطبيق في بعض المؤسسات التقنية أو التعليمية، لكنه اليوم يخطو خطواته الأولى نحو الإطار التشريعي الرسمي من خلال مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد، وبحسب الخبيرة في التنمية الإدارية سلمى عبد اللطيف فإن إدخال العمل عن بعد إلى القانون يعني الاعتراف بأن الإدارة الحديثة لا تقتصر على الحضور الجسدي، بل على القدرة على إنجاز المهام وتحقيق النتائج، مشيرة إلى أنّ: هذا التوجه ينسجم مع فلسفة التحول الرقمي الذي تسعى إليه الدولة في مرحلة ما بعد التحرير.
بين الترحيب والتحفّظ
وبين الترحيب والتحفظ تباينت وجهات نظر عدد من الموظفين الذين استطلعنا أراءهم حول التجربة المنتظرة، فتقول ريم الحاج الموظفة في قطاع الاتصالات حول أن العمل من المنزل سيساعد الأمهات كثيراً، ويوفر الوقت المهدور في المواصلات، وخصوصاً في دمشق التي تعاني من الازدحام الشديد، وتؤكد ان العبرة في ما يتم تقديمه من عمل وإنجاز لا في الحضور الشخصي.
أما أحمد مهنا، الموظف في أحد القطاعات الخدمية، فيرى أن النجاح في تطبيق العمل عن بعد يحتاج إلى بنية رقمية قوية ونظام متابعة دقيق حتى لا يتحول إلى تسيّب إداري.
في المقابل يعتبر سامي محسن، وهو موظف في القطاع المالي أن العمل عن بعد قد يخلق فجوة بين العاملين في المقر وبين من يعملون خارجه، إذا لم تُنظّم المعايير بوضوح.
ورأى عدد من العاملين في قطاع الإعلام أن العمل عن بعد يتناسب أكثر مع طبيعة عملهم ويوفر لهم العديد من المزايا منها المرونة في إدارة الوقت والعمل من أي مكان، ما يقلل من تكاليف التنقل والوقت المهدر في الانتقال، والاسهام في التوازن بين الحياة العملية والشخصي، كما أنه يمنحهم فرصة لتوسيع نطاق البحث وجمع المعلومات من مصادر مختلفة دون التقيد بموقع جغرافي، ويعزز الإنتاجية والتركيز لدى البعض، ويتماشى مع طبيعة المهام التي تعتمد على استخدام التكنولوجيا والإنترنت في الإنتاج والنشر شريطة أن تتوفر البنية التحتية والأدوات المناسبة لأداء عملهم مع التأكيد على ضرورة التواصل المستمر والفعال مع مؤسساتهم.
وأكدوا على شكل إدراج العمل عن بعد ضمن مشروع قانون الخدمة المدنية خطوة جريئة نحو تحديث الجهاز الإداري وإعادة تعريف العلاقة بين الموظف والدولة، وإذا ما تم تطبيقه بالشكل الصحيح، يمكن أن يفتح الباب أمام إدارة أكثر كفاءة ومرونة وعدالة، ويُعيد الثقة بدور الوظيفة العامة كأداة خدمة، وبذلك يتحول إلى رؤية لمستقبل العمل في سوريا الجديدة وليس مجرد خيار تنظيمي.