الثورة – علاء الدين محمد:
يظلّ المسرح الفرنسي المعاصر واحداً من أكثر التجارب الدرامية ثراءً وتنوّعاً في العالم، إذ يمتاز بعمق العوالم التي يستكشفها وبكثافة درامية تتجاوز حدود العرض التقليدي إلى فضاءات فكرية وإنسانية رحبة.
صدر مؤخراً عن الهيئة العامة للكتاب – وزارة الثقافة – كتاب جديد بعنوان «مختارات من المسرح الفرنسي المعاصر»، من ترجمة الدكتور منتجب صقر، يضم أربع مسرحيات تمثّل نماذج حيّة من تيارات المسرح الفرنسي الحديث.
“الليلة التي سبقت الغابات”
تفتتح المختارات بمسرحية «الليلة التي سبقت الغابات» للكاتب برنار ماري كولتيس، التي كتبها عام 1977، وفيها يسلّط الضوء على معاناة الغريب في المجتمع الغربي عموماً، والفرنسي على وجه الخصوص.
يرسم كولتيس صورة مؤلمة للمشرّد الذي يعيش في مجتمع لا يصغي إليه، ولا يعترف بإنسانيته، فيتحوّل إلى كائن منسيّ على هامش المدينة الحديثة.
ومن هنا تأتي حداثة المسرحية التي تُعدّ صرخة احتجاج إنسانية في وجه مجتمعٍ يزداد تعقيداً وتبلّداً تجاه المهمّشين.
المأساة اليومية في «الممر»
أما المسرحية الثانية «الممر»، فهي للكاتب فيليب مينيانا، الذي جمع بين التمثيل وإدارة الورش المسرحية، وله أكثر من ثلاثين عملاً مسرحياً نُشر في فرنسا وأوروبا.
يستمد مينيانا مادته الدرامية من الواقع اليومي، فيقدّم مأساة عائلة تهزّها حادثتان قاسيتان: مقتل الأخ الكبير، الملقب بـ«الدخيل»، أثناء رحلة صيد، وفقدان الأخ الأصغر لبصره أثناء العمل.
ومن خلال هذه الأحداث، يكشف الكاتب هشاشة العلاقات الإنسانية وتداعي الذاكرة والوجدان داخل البيت الواحد، في نصٍّ ينبض بالعفوية والصدق ويغوص في تفاصيل الحواس والعقل والذكريات.
تتميّز كتابة مينيانا بتقنيات حداثية واضحة، التقطيع السردي، وغياب علامات الترقيم، وغزارة الإرشادات الإخراجية، وتكرار الجمل والصمت المعبّر، ما يمنح النص إيقاعاً حزيناً متكسّراً يوازي اضطراب الشخصيات الداخلي.
بين الحياة والموت
وتضم المختارات أيضاً مسرحيتي «زواج الموتى» و«رماد فوق الأيدي»، اللتين تتناولان بعمق شعري العلاقات الأسرية والاجتماعية، وما يعتمل في داخل الإنسان من صراع بين الحاضر والماضي، بين الحياة والموت، وبين الرغبة في الخلاص والوقوع في أسر الذاكرة.
يقدّم هذا الكتاب، من خلال ترجمته الرصينة واختياراته الدقيقة، مشهداً بانورامياً لجوهر المسرح الفرنسي المعاصر، الذي لا يزال يصرخ في وجه المجتمع الحديث، كاشفاً هشاشته، ورافعاً راية الإنسان في مواجهة الاغتراب والتهميش.