الثورة – هنادة سمير:
مع تسارع التحول الرقمي في سوريا، أصبح الهاتف المحمول جزءاً لا يتجزأ من حياة المواطنين، وأداة عمل ودراسة وتواصل يومي، فالموظف يتابع مهامه عبر تطبيقات العمل الذكية، والطالب يدرس من هاتفه، والمواطن ينجز معاملاته عبر المنصات الإلكترونية.
لكن هذه السهولة الرقمية أخفت خطراً متنامياً: أمراض الموبايل، وهي مجموعة من المشكلات الصحية التي تصيب العضلات والعظام والأعصاب والعينين نتيجة الاستخدام الطويل وغير الصحي للأجهزة الذكية.
تحول رقمي يبدّل نمط الحياة
غير التحول التقني سلوك الأفراد داخل العمل وخارجه بحيث أصبح الموظفون في المؤسسات الحكومية والخاصة، يقضون ساعات طويلة أمام هواتفهم لإنجاز الأعمال ومتابعة التعليمات.
تقول ندى السباعي، الموظفة في إحدى المؤسسات الخدمية: أصبح الهاتف جزءاً من عملي اليومي، أستخدمه في التنسيق والمتابعة حتى بعد الدوام.
ومع الوقت، بدأت أعاني صداعاً وآلاماً في الرقبة والكتفين.
ويضيف وسيم الخطيب، وهو موظف في شركة تقنية: العمل عبر الهاتف جعلنا متصلين بشكل دائم.
نتلقى الرسائل والتعليمات في أي وقت، وهذا يسبب إرهاقاً نفسياً وجسدياً.
هذا الاستخدام المفرط بات واضحاً في العيادات الطبية، وفي هذا السياق يبين الطبيب عمار داوود اختصاصي أمراض العظام والمفاصل “للثورة “، أن العيادات تشهد تزايداً لافتاً في حالات متلازمة العنق النصية الناتجة عن الانحناء المستمر للرأس أثناء استخدام الهاتف والأجهزة اللوحية، فكلما انحنى الرأس للأمام، يزداد الضغط على فقرات الرقبة، وقد يصل إلى خمسة أضعاف الوزن الطبيعي للرأس، ويوضح داوود: مع الوقت، يؤدي ذلك إلى إجهاد عضلي وتشنجات وآلام مزمنة في الكتفين والظهر، مشيراً إلى أن الاستخدام الطويل للهاتف يسبب أيضاً التهاب أوتار اليد والرسغ، إضافة إلى خدر في الأصابع نتيجة الكتابة المتكررة أو الإمساك بالجهاز لفترات طويلة.
تبدأ المشكلة عادة بألم بسيط أو شد عضلي، لكن الإهمال يحولها إلى مشكلة مزمنة، يقول الدكتور داوود: كثير من الناس يظنون أن الألم عرض مؤقت، فيكتفون بالمسكنات، بينما هو في الحقيقة إشارة تحذيرية مبكرة، و التأخر في العلاج قد يؤدي إلى التهاب مزمن أو انزلاق غضروفي، ويتابع: هذه المشكلات لم تعد تخص فئة معينة حتى الطلاب اليوم يستخدمون الأجهزة المحمولة بشكل مفرط، ما يجعل التوعية الصحية واجباً عاماً، لا يقتصر على الموظفين.
إرهاق رقمي وضغط نفسي
يؤكد مختصون أن استخدام الهاتف في بيئة العمل لا يضرّ الجسد فقط، بل يخلق ضغطاً نفسياً خفياً، وتوضح هالة العلبي، وهي موظفة إدارية: نعيش في حالة عمل مستمرة، حتى بعد انتهاء الدوام، تصلنا رسائل ومكالمات تتعلق بالعمل، هذا التداخل بين الحياة الشخصية والوظيفية يرهقنا نفسياً.
ويرى خبراء التنمية الإدارية أن هذه الظاهرة تُعرف بـ الإرهاق الرقمي، وهي إحدى نتائج غياب الضوابط في استخدام الهاتف خارج أوقات الدوام، ما يستدعي تنظيم العلاقة بين الموظف والتقنيات الحديثة.
وعي صحي مازال محدوداً
رغم تزايد الحالات، لايزال الوعي الصحي بأمراض الموبايل محدوداً، يؤكد الدكتور داوود: إن ضعف الثقافة الوقائية هو السبب الأبرز في تفاقم الإصابات فلم تتشكل بعد ثقافة مهنية تحذر من مخاطر الجلوس الخاطئ، أو الاستخدام الطويل للهاتف كما هو الحال في الدول المتقدمة التي لديها برامج توعية في المؤسسات، أما لدينا فمازال الموضوع بحاجة إلى اهتمام جاد.
ويؤكد أن الحل يبدأ بتغيير العادات اليومية كالجلسة الصحيحة، فترات الراحة، وممارسة التمارين البسيطة خلال الدوام.
ورغم غياب برامج توعية محلية متخصصة بأمراض الموبايل حتى الآن، فإن وزارة الصحة السورية تعمل على تطوير خدمات الصحة الرقمية ضمن إطار التعاون الإقليمي.
فخلال هذا العام 2025، تم توقيع مذكرة تفاهم مع شركة لين السعودية لتطوير البنية التحتية الرقمية للرعاية الصحية في سوريا، تشمل تعزيز التحول الرقمي وتبادل الخبرات في الاستشارات الطبية عن بعد، كما تم إطلاق الربط الرقمي بين وزارة الصحة، ومنصة صحة الافتراضي السعودية، بهدف تطوير الخدمات الصحية الإلكترونية، وتوسيع الاستشارات الرقمية.
وتعد هذه الخطوات تمهيداً لإدخال مفاهيم جديدة في الطب الرقمي، ويمكن أن تكون نواة مستقبلية لإطلاق برامج توعية حول الاستخدام الصحي للتقنيات الحديثة.
وحتى لا تتحول الهواتف إلى مصدر ألم مزمن، يوصي الدكتور داوود بعدد من الإجراءات البسيطة منها: رفع الهاتف إلى مستوى العين لتجنب انحناء الرقبة، أخذ استراحة كل نصف ساعة تتضمن تحريك الرقبة والكتفين، ممارسة تمارين تمديد يومية لليدين والرقبة، تجنب استخدام الهاتف أثناء الاستلقاء أو قبل النوم مباشرة، تقليل سطوع الشاشة لحماية العين من الإجهاد، وأخيراً الاعتماد على الحاسوب في الكتابة الطويلة لتخفيف الضغط على الأصابع.
بين التقنية والإنسان
يؤكد أطباء مختصون أن أضرار الموبايل لا تقتصر على الجهاز العضلي، بل تمتد لتشمل مشكلات في النظر والسمع والذاكرة واضطرابات النوم نتيجة الإشعاع الأزرق وقلة الحركة، محذرين من أن الاستخدام الطويل للهاتف دون فترات راحة منتظمة قد يتحول مع الوقت إلى خطر صحي شامل.
ويرى خبراء أن الهاتف المحمول رغم أنه ضرورة لا يمكن الاستغناء عنه، لكنه في الوقت نفسه يعتبر تحدياً صحياً جديداً، ومع استمرار التحول الرقمي في سوريا، تصبح الحاجة ملحة لتكامل التطور التقني مع ثقافة الوعي الصحي لأن الإدارة الإلكترونية لا تكتمل إلا بإنسان سليم قادر على مواكبتها والتحول الرقمي ليس فقط في الأنظمة والمنصات، بل في إدارة الإنسان لعلاقته مع التكنولوجيا.