الثورة- هراير جوانيان:
على حافة أوروبا في منطقة شمال الأطلسي، حيث المطر لا يهدأ، كتبت واحدة من أكثر القصص الكروية إدهاشاً في أوروبا الحديثة. منتخب جزر فارو، ذلك الاسم الذي كان يُذكر دوماً على سبيل المجاملة أو الشفقة، صار اليوم يُتداول باحترام ودهشة، بعدما حوّل تصفيات كأس العالم 2026 إلى مسرح لحلم واقعي يتجاوز كل التوقعات.
قبل أشهر فقط، لم يكن أحد يتخيّل أنّ فريقاً من أرخبيل، لا يتجاوز عدد سكانه الـ 55 ألف نسمة، يمكن أن يهزم منتخبات عريقة مثل تشيكيا، بطلة أوروبا 1976، ووصيفة بطل العام مرّتين، وسلوفينيا. لكن المنتخب الذي كان مغموراً فعل ذلك، حيث تمكن من التغلب على التشيكيين 2-1 في تورشافن، محققاً ثالث انتصار متتالٍ، والرابع في التصفيات، ليصل إلى حاجز الـ 12 نقطة، وهو رقم لم يبلغه المنتخب في تاريخه كلّه.
يقول المدرب الدانماركي هولد نيلسن بعد الفوز الأخير: “لسنا نحلم… نحن نعمل. هذه الجزيرة الصغيرة فيها قلوب كبيرة، وهذا يكفي”. تختصر كلماته فلسفة التغيير التي عاشها المنتخب منذ تسلّمه المهمة قبل ثلاث سنوات. فبدلاً من الرضا بالدفاع والاستسلام، زرع نيلسن في لاعبيه جرأة جديدة: أن يهاجموا، أن يؤمنوا، أن يجرّوا الكبار إلى معارك لا يتوقعونها.التحوّل لم يكن وليد الصدفة.
منذ 2020، أطلق الاتحاد الفاروي مشروعاً وطنياً لتطوير اللعبة بعنوان (مستقبل فارو)، ركّز على بناء القاعدة الكروية من الأساس: تدريب الناشئين، استقدام مدرّبين أوروبيين متخصّصين، وإنشاء ملاعب بعشب صناعيّ مقاوم لطقس الجزيرة القاسي. يقول رئيس الاتحاد كريستيان أندريسن: كنا نعلم أننا لن نغيّر التاريخ إن لم نغيّر ذهنيتنا أولاً. أما اللاعبون، فأغلبهم أصبح محترفاً في الدوريات الإسكندنافية، من الدانمارك إلى السويد، حيث نهلوا الخبرة واللياقة والاحتراف إذ لم تكن متاحة في الدوري المحلي، وكانت النتيجة مثالية: منتخب أكثر نضجاً، أكثر تنظيماً، وأكثر إيماناً بقدرته على المنافسة. وظّف المدرب نيلسن عناصره على أفضل نحو، معتمداً طرق لعب تناسب إمكاناتهم حيث يعتمد على الكثافة الدفاعية والتحوّلات السريعة. الفريق لا يملك نجوماً عالميين، لكنه يملك نظاماً يعرف كل لاعب فيه دوره. لكن السر الحقيقي في الطفرة الفاروية هو الروح. فارو تلعب كما لو كانت تمثل أمة كاملة تحلم بالاعتراف. المشجعون الذين يملؤون المدرجات الصغيرة في تورشافن يهتفون كما لو أنهم في نهائي كأس أوروبا، واللاعبون يردّون التحية بأداءٍ بطولي.
يقول القائد روغفي نيلسن: حين نرتدي القميص، ننسى حجمنا. نحن نقاتل كأننا مليون.تنظر أوروبا الآن بدهشة إلى هذا المنتخب الذي تحوّل من (لقمة سائغة) في جداول التصفيات إلى خصم مرعب يقاتل على كل كرة. 12 نقطة في مجموعة تضم تشيكيا وسلوفينيا وليتوانيا ليست رقماً بسيطاً، بل هي إعلان بأنّ كرة القدم لا تعترف بالحجم الجغرافي، بل بالإيمان والمشروع والرغبة.
في النهاية، قد لا تصل جزر فارو إلى نهائيات كأس العالم، لكن ما حققته حتى الآن يكفي ليُذكر في كتب التاريخ كـ(معجزة الشمال). في زمنٍ تسيطر فيه الأموال والنجوم والإعلانات، تأتي فارو لتعيد الأمور إلى نصابها، ولتذكّر الجميع بأنّ جوهر اللعبة لايزال بسيطاً: شغف، عمل، وإيمان بأنّ المستحيل مجرّد كلمة.