الثورة – إيمان زرزور :
في خطوة تحمل بعداً إنسانياً واقتصادياً في آن واحد، أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية عن إدراج “ميزة الطباعة النافرة” في الإصدار الجديد من العملة السورية، لتمكين المكفوفين وضعاف البصر من تمييز الفئات النقدية بسهولة.
ورغم أن الإعلان بدا للوهلة الأولى تفصيلاً فنياً في تصميم العملة، إلا أنه في جوهره يعكس تحولاً نوعياً في مفهوم الشمول الاجتماعي والمالي داخل سوريا الجديدة، ووعياً متزايداً بحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة كجزء أصيل من المجتمع.
أوضح الحصرية أن القرار جاء استجابة لمطالب أشخاص من ذوي الإعاقة البصرية بضرورة اعتماد تصميم نقدي أكثر عدلاً وشمولاً، بعد تواصل مباشر مع وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل هند قبوات.
وتكمن أهمية هذه الخطوة في أنها تنتقل بالسياسات النقدية من البعد الإداري إلى البعد الإنساني، حيث تُدرج احتياجات فئة طالما تم تجاهلها في تفاصيل الحياة اليومية، ومنها التعامل مع النقود.
إدخال الطباعة النافرة لا يرمز فقط إلى تحسين سهولة الاستخدام، بل إلى اعتراف رسمي بحق المكفوفين في الاستقلالية الكاملة، وهو ما يشكل ترجمة عملية لالتزامات سوريا الجديدة تجاه اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي تؤكد مبدأ “النفاذ إلى الحياة العامة دون تمييز”.
على المستوى الاقتصادي، يمثل تضمين هذه الميزة جزءاً من توجه أوسع نحو تعزيز الشمول المالي، الذي بات معياراً رئيسياً في أنظمة النقد الحديثة، فوجود فئات نقدية يمكن تمييزها باللمس يمكّن ذوي الإعاقة من التعامل النقدي دون وسيط، ما يوسع قاعدة المشاركة في النشاط الاقتصادي، ويقلل من مظاهر العزلة الاجتماعية التي كانت تُفرض عليهم بحكم ضعف الأدوات الميسّرة.
تعد هذه الخطوة امتداداً لما يسمى في السياسات المالية المعاصرة بـ”الاقتصاد المتاح”، أي الاقتصاد الذي يضمن لكل فئات المجتمع إمكانية الوصول إلى خدماته واستعمال أدواته.
وبذلك يصبح الإصدار النقدي الجديد رمزاً لشمول مالي وإنساني يتجاوز حدود المظهر الجمالي للعملة.
سبق أن تحدث المصرف المركزي عن نيته إصدار العملة الجديدة بست فئات مختلفة خالية من الصور والرموز التقليدية، في محاولة لإرساء تصميم بصري حديث وبسيط يعكس الثقة بالاقتصاد الوطني، ويأتي هذا التوجه ليكمل الجانب الإنساني في السياسة النقدية الجديدة، عبر تصميم يُراعي التنوع البشري ويعتمد الجمال في البساطة، بعيداً عن رمزية السلطة أو الأيديولوجيا التي ارتبطت بالعملة سابقاً.
تترافق عملية إصدار العملة الجديدة مع خطة شاملة أعدها المصرف المركزي لضمان استقرار السوق النقدية وضبط حركة السيولة ومنع المضاربات، ما يشير إلى أن القرار لا يهدف فقط إلى استبدال الأوراق التالفة أو تحسين المظهر الخارجي، بل إلى إعادة بناء الثقة بالعملة الوطنية بوصفها عنواناً للسيادة والاستقرار.
كما أن استجابة مصرف سوريا المركزي لمطالب ذوي الإعاقة البصرية تمثل تحولاً في الثقافة المؤسسية نحو نهج أكثر انفتاحاً وتفاعلاً مع المجتمع، فهي تعبّر عن إدراك متزايد بأن التنمية لا تكتمل دون إشراك الفئات المهمّشة في صُنع السياسات العامة.
فمن خلال خطوة واحدة في تصميم العملة، ترسل سوريا رسالة إلى الداخل والخارج مفادها أن الإصلاح الاقتصادي لا ينفصل عن الإصلاح الإنساني، وأن بناء الثقة بالليرة الجديدة يبدأ من بناء الثقة بالإنسان نفسه، بكل تنوعه وقدراته وكرامته.
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى الطباعة النافرة على العملة الجديدة كمجرد تعديل تقني، بل كإعلان عن تحول ثقافي وسياسي في مفهوم الدولة ومؤسساتها، من نموذج الإقصاء إلى نموذج الشمول والمشاركة، وهي خطوة رمزية تحمل في طياتها معنى العدالة، وتؤسس لمشهد نقدي جديد يجعل من الورقة المالية أداة مساواة لا تمييز، وجسراً بين الاقتصاد والكرامة الإنسانية.