افتتاحية الثورة – بقلم رئيس التحرير نور الدين الإسماعيل
“السياسة هي فن الممكن”، هذا القول منسوب للمستشار الألماني السابق أوتو فون بسمارك، ويعني أن السياسة لا تعتمد على النظرة الحالمة الرومنسية والأمنيات والعواطف، بل هي تحقيق ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع ضمن الظروف المتاحة، لتحقيق المصلحة العامة، بعيداً عن الشعبوية والخطابات والشعارات التي لا تحقق سوى المزيد من المعاناة.
وبذلك فإن السياسة تقوم على المصالح وليس على العواطف والمشاعر، فعدو الأمس ربما يصبح صديق اليوم، بتبدل الظروف والواقع سيراً خلف المصالح العامة، وهذا ما دفع اليابان لفتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة عقب خسارتها الحرب العالمية الثانية، بهدف إعادة بناء الدولة المدمرة، رغم رؤية البعض أن الواقع السوري يختلف نوعاً ما في مفهوم الهزيمة والانتصار، لكن التشابه بين الحالتين هو في محاولة النهوض بعد الحرب، والحاجة لإعادة بناء الدولة المدمرة، وأن الطرف الآخر هو دولة عظمى لا يمكن مواجهتها بالشعارات والخطابات، الأمر الذي فعله نظام الأسد طيلة 55 عاماً مع واشنطن، ولم يحقق نتيجة سوى تجويع وتركيع الشعب السوري.
اليوم يزور الرئيس أحمد الشرع روسيا ليلتقي بالرئيس فلاديمير بوتين، في أول زيارة له منذ التحرير، وسقوط نظام الأسد المخلوع، وذلك برفقة وفد يضم وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة، وعدداً من المسؤولين العسكريين والأمنيين.
وبحسب ما أعلن الكرملين اليوم، فإن مباحثات الرئيسين السوري والروسي ستتناول تطوير العلاقات بين البلدين، وتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، في حين ذكرت وكالة “رويترز” أن الرئيس الشرع سيطالب خلال الزيارة بتسليم المخلوع بشار الأسد، لمحاكمته بسبب جرائمه تجاه الشعب السوري.
ما نعرفه عن روسيا خلال السنوات السابقة يجعل من إمكانية تسليم بشار الأسد للمحاكمة أمراً مستحيلاً، وهو الصندوق الأسود الذي قد يكشف كثيراً من التفاصيل حول العلاقة بين البلدين خلال سنوات الحرب، وخصوصاً أنه المتهم الأول باستخدام الكيماوي، إضافة إلى شن حرب الإبادة ضد السوريين، بمساندة ودعم عسكري وسياسي لا متناهٍ من روسيا.
موسكو، على خلاف الغرب، لا تستغني عن عملائها بهذه السهولة، فرغم مطالبات الولايات المتحدة الأمريكية المتكررة بتسليم إدوارد سنودن، الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، والذي سرّب وثائق سرية تكشف برامج تجسس أمريكية، وفرّ إلى روسيا عام 2013، فإنها ترفض إلى اليوم تسليمه ضمن أي صفقة مع واشنطن، إضافة إلى أن قادة ورؤساء كثراً كانوا مرتبطين بموسكو ولجؤوا إليها لاحقاً، ولم يذكر حتى الآن تسليم شخصية واحدة منهم، من بينهم الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، والقائد الأوكراني الموالي لروسيا إيغور ستريلكوف.
بعض المحللين يتوقعون أنه ربما قد تلجأ موسكو إلى التخلص منه في لحظة ما، مستندين إلى حوادث مشابهة، من بينها ما لاقاه زعيم قوات فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين عام 2023، حيث قضى في حادث تحطم طائرة، والذي نفت موسكو أي علاقة لها بالحادث.
ربما تحقق زيارة الرئيس أحمد الشرع بعض المكاسب على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية، وخصوصاً أن السلاح السوري بالكامل هو سلاح روسي، ولا يمكن الاستغناء عنه في ظل الحاجة إلى إعادة بناء القدرات العسكرية، وترميم السلاح المتهالك، وقد تؤدي المحادثات إلى حل مشكلة الاستثمارات والقواعد الروسية في سوريا، لكن، وبحسب توقعي، فإن موسكو لن تسلم بشار الأسد تحت أي صفقة، إلا إذا استجد شيء ليس بالحسبان، وخصوصاً أن مجرد الحديث عن هذه الزيارة لم يكن وارداً ضمن أعلى سقف توقعات لدى أكثر المحللين السياسيين شطحاً وتفاؤلاً، قبل عام، ولو فعلها أحد منهم لاتّهم بالجنون.