الثورة – حسين روماني :

سلم موسيقي كان أشبه بدفتر مذكرات من الحرية لأبناء الثورة السورية، لحظة كثّفت فيها الأصوات البشرية والموسيقية طاقة شعب كامل يفتّش عن معنى الحرية.
منذ آذار 2011، ظهرت الموسيقا كفاعلية موازية للاحتجاج، تنسج خطاباً موازياً للشارع، وتُنقِلُ العالم الداخلي للسوريين إلى العلن، بهذا المعنى، لم تكن الأغنية زينة للمشهد الثوري، بل إحدى أدواته الأكثر فاعلية وتأثيراً.
يتجلّى ذلك بوضوح في تجربتين متكاملتين في الأثر، موسيقا مالك جندلي وميدان الراحل عبد الباسط الساروت، إذ قدّم جندلي واحداً من أكثر المواقف الفنية رمزية حين عزف مقطوعة “وطني أنا” في الولايات المتحدة، متحدّياً المنظور الأمني الذي حاول خنق أصوات المحتجّين.
الموسيقا هنا تصبح خطاباً عالمياً ينقل معاناة بلد إلى خشبات المسارح الدولية.
يشتغل جندلي على مساحة “الذاكرة الجمالية”، حيث تتحوّل الألحان إلى وثيقة وجدانية موازية لأي شهادة سياسية؛ وثيقة تمتدّ خارج حدود المكان، كأن البيانو نفسه يعلن أن الصوت قادر على تجاوز الصمت المُفروض بالقوة، وله أيضاً السمفونية السورية التي تناولت بدأ تأليفها في أميركا مع انطلاقة الثورة 2011 وعزفها لأول مرة في نيويورك بداية عام 2015، تتكوّن السيمفونية السورية من أربع حركات تجسّد مسار الثورة منذ اندلاعها عام 2011.
تحاكي الحركة الأولى شرارة الاحتجاجات وقمع السلطة، بينما تقدّم الثانية إيقاعاً متوسطاً أكثر خفّة.
في الثالثة يهيمن الحزن بوصفه مرآةً للمجازر والإبادة التي عاشها السوريون طوال 13 عاماً.
وتبلغ السيمفونية ذروتها في الحركة الرابعة التي تؤكد الإصرار على المضي في طريق الثورة والإيمان بانتصار الشعب رغم كلّ الظروف، وصولاً إلى التحوّل الذي تحقق في نهاية العام الماضي.
على الضفة الأخرى، كان عبد الباسط الساروت يؤسّس لشكل آخر من الموسيقا وهي التي كانت أقرب إلى المجتمع، لم يحتج إلى آلات معقّدة ولا إلى منصّات عالمية؛ يكفي أن يهتف “حانن للحرية” حتى يصبح المكان بكامله امتداداً لصوته، إن ما أحدثه الساروت خلق فضاءً صوتياً جماعياً يصنع الإيقاع من أقدام المتظاهرين وتصفيقهم، هنا تتحوّل الموسيقا إلى فعل مباشر، يُستخدم للحشد، لتخفيف الخوف، ولتحويل الجموع إلى جسد واحد، الصوت الشعبي في تجربة الساروت ليس أقل قيمة من الموسيقا الأوركسترالية؛ إنه يستمد قوته من حرارة اللحظة وقدرته على تنشيط الوجدان العام.
برزت أصوات شابة حاولت صياغة الأغنية الثورية بصيغ أكثر بساطة وارتجالاً، ومنها تجربة وصفي المعصراني الذي قدّم مجموعة من الأغاني المستلهمة مباشرة من وقائع الأيام الأولى للاحتجاج، اشتغلت أغانيه مثل “سوري أنا”، “درعانا تنادي”، و”يا مو” على الجمع بين الحنين والمباشرة، وعلى استعادة مفردات الفولكلور وإعادة شحنها دلالياً لتناسب اللحظة، و نجح في تحويل التسجيلات البسيطة إلى ما يشبه بطاقة تعريف صوتية لمدن وشوارع ووجوه أرادت الحرية، تُظهر تجربته كيف يمكن للهواة أيضاً أن يكونوا جزءاً من الذاكرة السمعية للثورة، وأن تتحوّل أصواتهم إلى أرشيف عاطفي موازٍ للأرشيف الرسمي الغائب.
اللمسة الإنسانية لم تبتعد عن الثورة ومن مضى في سبيلها، نراها بوضوح متواجدة في المقطوعة الموسيقية التي ألفها الفنان محمد عزاوي لزوجته الفنانة الراحلة فدوى سليمان، إحدى أبرز الأصوات التي نادت بالحرية وأجبرتها كلمة الحق على مغادرة الوطن والعيش في فرنسا، تمكن منها مرض عضال لكنّه لم يتمكن من محي مواقفها في حمل قضايا الثورة ضد النظام البائد إلى أرجاء العالم، رغم أن عزاوي كان في دمشق مع ابنهما ورد، لم يجد الخوف طريقاً إليه وهو يرثي زوجته التي دفعت ثمن معارضتها للنظام البائد كثيراً حتى ماتت وهي بعيدة عن عائلتها، وضع احساسه في مقطوعة موسيقية حملت عنوان :”وحيد – Lonley” تخليداً لذكراها وكأن العمل جاء ليكمّل ما بدأته تحويل التجربة الفردية إلى أثر فني لا ينتهي، يقول عزاوي عن كواليس تلك المقطوعة للثورة: ” كانت فدوى تمضي نحو التحسن طمأنها الأطباء في المشفى، لكنّها قالت لي بأنها تشعر بوحدة قاتلة، أذكر بأنها تكلمت معنا طويلاً، تذكرنا أشياء كثيره، بعضها مضحك وبعضها مبكٍ، ودعنا بعضنا وعلى ما أذكر كانت ستسافر إلى مدينه أخرى لأمسيه شعريه”، ويضيف، “سهرت للصباح أعمل على هذه القطعة الموسيقية، كنت أنتظر الفرصة لأرسلها إليها كي تسمعها، رغم أن رأيها كان يحمل القسوة أحياناً لكنّه دائماً محبب لدي، مرت الأيام واكتملت القطعة، ولكن للأسف اشتد المرض كثيراً بقيت في المشفى حتى غادرت نحو مثواها الأخير، لم تستمع للقطعة التي صنعت لها، لم أستمع لرأيها، ربما تأخرتُ كثيراً لكنني أحببت أن يسمعها العالم كله تخليداً لفدوى”، يذكرنا عزاوي بأن المقطوعة وجدت طريقها للعزف على أرض فرنسا بيد أعضاء أوركسترا المغتربين السوريين، هدية لروح الراحلة فدوى سليمان.
ولا يمكن الحديث عن موسيقا الثورة من دون التوقّف عند ظاهرة إعادة غناء الأغاني التي رافقت الحراك.

من أبرزها نسخة أصالة نصري من “ارفع راسك فوق… إنت سوري حر”.
هذا النوع من الإعادة ليس مجرد استعادة لحنية، بل إعادة تعريف للمعنى عبر صوت جديد وجمهور جديد، في حالة أغنية أصالة، كانت الرسالة مزدوجة استعادة كرامة جريحة، وتأكيد أنّ الفن يمكن أن يحمل موقفاً سياسياً واضحاً رغم كلّ القيود، لقد شكّلت الأغاني المعاد أداؤها جسراً بين ذاكرة ما قبل الثورة ووجدان لحظتها، وربطت الفردي بالجمعي عبر لحن مشترك يعرفه الجميع.
كثيرة هي التجارب والمحاولات، لا تتسع في مقال ولكن تكمن أهمية موسيقا الثورة في أنها لم تكتف بتوثيق لحظات سياسية، بل شاركت في صناعتها، لقد قدّمت صوتاً لمن لا صوت لهم، وخلقت ذاكرة صوتية تقاوم النسيان.
ومع تعدّد التجارب بين جندلي والساروت والمعصراني وغيرهم، تتأكد حقيقة واحدة أن الموسيقا، حين تنبثق من لحظة صدق، تصبح جزءاً من سيرة شعب لا من أرشيف فني فقط.