التلوث البيئي… صمت ينهش رئتي دمشق 

الثورة – ثورة زينية:

تغرق دمشق منذ سنوات في طبقة كثيفة من الضباب الملوّث الذي يخيم فوق شوارعها وأسواقها وأحيائها السكنية، المشهد لم يعد استثناء بل تحول إلى جزء من صباح العاصمة حيث يجد سكانها أنفسهم يبدؤون يومهم وسط هواء مثقل بالدخان والانبعاثات، يتسلل إلى الرئتين قبل أن يتسلل الضوء إلى النوافذ، ومع تكرار هذا المشهد تتعاظم المخاوف من تفاقم أزمة بيئية باتت تشكّل عبئاً صحياً ونفسياً لا يمكن تجاهله.

في شوارع دمشق يظهر أثر الأزمة بوضوح على المارة الذين بات كثير منهم يستخدم الكمامات خارج نطاق الأمراض الموسمية، وعلى أصحاب المحال الذين يلاحظون طبقة غبار رمادية تتراكم بسرعة على واجهاتهم، فالمدينة التي كانت تستقبل الشتاء برائحة المطر باتت تستقبله بصوت المولدات ورائحة الوقود المحترق.

ارتفاع نسب الملوثات إلى مستويات حرجة

التقارير البيئية المحلية والدولية ترسم صورة مقلقة، فمؤشر جودة الهواء تجاوز مستوى الجيد ويدخل نطاقاً يحذر الخبراء من آثاره المباشرة على الصحة العامة، فعوادم السيارات وغالبها قديم يستهلك وقوداً ملوثاً تتصدر قائمة الأسباب، يليها الضيف الثقيل الذي بات جزءاً من يوميات سكان دمشق : المولدات الكهربائية، التي تعمل لساعات طويلة خلال ساعات انقطاع الكهرباء تضخ غازات خانقة ترفع نسب الملوثات إلى مستويات حرجة، بينما تبدو مقالع الحجر المنتشرة حول المدينة كأنها تضيف طبقة أخرى من الغبار الذي يستقر فوق منازل دمشق العتيق، كما تشير تقارير دولية بينها تقارير صادرة عن البنك الدولي وجهات أوروبية إلى أن المياه لم تنج بدورها من التدهور وغياب محطّات معالجة كافية، إلى جانب استخدام مياه الصرف الصحي في الري في بعض ضواحي العاصمة خلق مزيجاً خطيراً من مصادر التلوث التي تهدد شبكات المياه الجوفية ومياه الشرب على السواء.

تشوهات في أوراق النباتات

يعترف الخبير البيئي المهندس زياد عربجي بأن تضرر شبكات الصرف والبنية التحتية خلال سنوات الثورة السورية فتح الباب أمام تسربات تسببت في تدهور إضافي يصعب احتواؤه، مضيفاً :على الأرض تختلف التفاصيل لكن النتيجة واحدة، ففي أحياء دمشق الشعبية يضطر بعض السكان لحرق مخلفات منزلية للتدفئة في الشتاء من البلاستيك إلى الورق وحتى الأقمشة، مشيراً إلى أن دخان تلك المواد يرتفع ليمتزج بدخان المولدات القديمة، فيغطي السماء بطبقة رمادية تشعر المارة بالاختناق منذ اللحظة الأولى للخروج من المنزل، فيما تعجز البنية الصحية التي أنهكتها سنوات الحرب عن مواكبة هذا التزايد في الحالات وحتى الغطاء النباتي الذي شكل تاريخياً رئة دمشق الشرقية والغربية، يوضح المهندس عربجي أنه لم يسلم من تبعات التلوث، حيث أكدت دراسة جامعية صدرت أخيراً عن جامعة دمشق أنها رصدت تشوهات في أوراق النباتات وتراجعاً في نمو بعضها تحت تأثير الغازات السامة الناجمة عن تلوث هواء العاصمة .

غطاء ضاغط يحتجز الملوثات فوق رؤوس السكان

ورغم أن الجهات المعنية تتحدث عن إجراءات للحدّ من الانبعاثات، يستدرك الخبير البيئي : إلا أن هذه الجهود تبدو متواضعة أمام حجم التحديات، فوسائل النقل المتهالكة لا تزال تضخ دخانها الداكن والمنشآت الصناعية على أطراف دمشق تعمل في كثير من الأحيان من دون أنظمة فلترة فعّالة، بينما تنتشر المولدات في كلّ حي تقريباً وبين هذه العوامل المتداخلة تتراجع قدرة العاصمة على تجديد هوائها وتتحول سماؤها إلى ما يشبه الغطاء الضاغط الذي يحتجز الملوثات فوق رؤوس السكان.

ويضيف : إن المشكلة لم تعد مجرد تلوث عابر بل تحوّلت إلى أزمة يومية يمكن رصدها بالأرقام وبأصوات الناس وبانحسار المساحات الخضراء في المدينة، و أن ما يزيد المشهد تعقيداً هو ضعف الوعي البيئي لدى جزء من المجتمع، وغياب حلول عملية للنقل العام وتأخر تحديث البنية التحتية التي يمكن أن تخفف من الاعتماد على مصادر التلوث.

بين إرث بيئي ثقيل وواقع اقتصادي صعب

مصدر في مديرية البيئة في محافظة دمشق بين لـ”الثورة” أنه على الرغم من وجود مبادرات خجولة لا يبدو أن الحلول الحالية توازي حجم المشكلة، فغياب محطّات المراقبة المنتظمة، وافتقار المدينة إلى خطّة واضحة لإدارة النفايات، وانعدام البدائل النظيفة للطاقة تجعل من التلوث خصماً شبه دائم، موضحاً : في حين تتحدث بعض الجهات عن مشاريع معالجة ومراقبة يظل الشارع في مواجهة مباشرة مع هواء أثقل من أن يتنفس ومياه أقرب إلى أن تقلق من أن تروي، معتبراً أن المشهد برمته يظهر مدينة عالقة بين إرث بيئي ثقيل وواقع اقتصادي صعب، فسنوات الحرب وتداخلها مع سوء إدارة مزمن للنفايات وانفجار سكاني في بعض المناطق، جعلت معركة دمشق مع التلوث أكثر تعقيداً من مجرد إصلاحات عاجلة، و الحاجة إلى استراتيجية شاملة تشمل تحديثاً للبنية التحتية وتقييداً أشد للمولدات والانبعاثات الصناعية وتفعيلاً لمحطات معالجة المياه، إلى جانب نشر وعي بيئي يحفز المجتمع على تبني سلوكيات أقل ضرراً.

موجات التلوث الأخيرة أكثر قسوة

أخصائي أمراض الربو والأمراض التنفسية الدكتور محمد جزائرلي كشف عن ارتفاع لافت في حالات الربو والالتهابات الصدرية خلال الأعوام الأخيرة خصوصاً لدى الأطفال وكبار السن، مشيراً إلى أن المستشفيات تشهد زيادة في المراجعين الذين يعانون من ضيق التنفس والسعال الحاد و التهاب القصبات والربو والتحسس الصدري، مؤكدين أن أغلب المراجعين يشتكون من أعراض مرتبطة مباشرة بتدهور جودة الهواء، حيث جاءت موجات التلوث الأخيرة أكثر قسوة خاصة مع ازدياد اعتماد السكان على المولدات الكهربائية وازدياد الضغط على شبكات النقل القديمة ما يضيف كميات كبيرة من الجسيمات السامة إلى الجو.

وبين حديث الأطباء وتحذيرات المختصين والخبراء وملاحظات السكان، تتكشف صورة قاتمة لواقع يحتاج إلى تحرك فعلي، فالتلوث البيئي الذي يعيش في الظل ويعمل بصمت، لا يترك أثراً فورياً صاخباً، لكنّه مع مرور الأيام يضعف الجهاز التنفسي ويثقل أجساد الناس ويصادر جزءاً من جودة الحياة في العاصمة.

وسط هذا الواقع تبحث دمشق عن إجابة لسؤال مصيري: من المسؤول؟ هل هي سنوات الحرب التي دمرت البنية التحتية؟ أم العشوائيات التي امتدت بلا تخطيط؟ أم المؤسسات التي لم تعد قادرة على إدارة ملف بيئي بالغ التعقيد؟ الحقيقة أن المشهد يتقاطع فيه كلّ ذلك ليصنع أزمة تتجاوز قدرة مدينة مرهقة على الاحتمال.

آخر الأخبار
السودان يثمّن دور السعودية وأميركا في دفع مسيرة السلام والتفاوض توليد الكهرباء بين طاقة الرياح والألواح الشمسية القطاع المصرفي.. تحديات وآفاق إعادة الإعمار الخارجية توقع مذكرة تعاون مع الأمم المتحدة لتعزيز قدرات المعهد الدبلوماسي القبائل العربية في سوريا.. حصن الوحدة الوطنية وصمام أمانها  عدرا الصناعية.. قاطرة اقتصادية تنتقل من التعافي إلى التمكين نتنياهو في جنوب سوريا.. سعي لتكريس العدوان وضرب السلم الأهلي هيئة التخطيط والإحصاء لـ"الثورة": تنفيذ أول مسح إلكتروني في سوريا استلام الذرة الصفراء.. خطوة لدعم المزارعين وتعزيز الأمن العلفي تعرفة النقل بين التخفيض المرتقب والواقع المرهق.. قرار يحرّك الشارع بعد عام من الحراك الدبلوماسي.. زخم دولي لافت لدعم سوريا صحيفة الثورة السورية المطبوعة.. الشارع الحلبي ينتظر رائحة الورق حملة "دفا".. ليصبح الشتاء أكثر دفئاً استيراد السيارات المستعملة يتأرجح بين التقييد والتمديد من الماضــــي نستمد العبرة للحاضـــر اضطراب القلق المعمّم يهدّد التوازن النفسي.. وعلاجه ممكن بشروط اختلال ميزان المجتمع.. هل تلاشت الطبقة المتوسطة ؟ الزيتون.. موسم صعب بين الجفاف وقلة الدعم التلوث البيئي... صمت ينهش رئتي دمشق  رحلتان علميتان لتعزيز مهارات طلاب علوم الأغذية بجامعة حلب