الثورة – لميس علي:
ماذا قتلنا حتى أصبحنا مَن نحن عليه اليوم..؟
حين ترد في الحلم الذي ترويه زوجة بطل العمل “علي، أكين كوتش” عبارة “اقتلي الضوء” بدلاً من “اطفئيه”، فإن فيلم “الأشياء التي تقتلها” يسمّي خوفه الأساسي، الخوف من الوضوح.

وكأن ثمة هروباً من الضوء الداخلي في عالمٍ تلوذ شخصياته باتجاه ما يناقض النور، لأنه يفضح هشاشتها ويكشف حقيقةً ما.. تختبئ منها. وبالتالي تشي هذه العبارة الاستهلالية “اقتلي الضوء” برمزيةٍ يفتتح فيها الفيلم ثيمته الأساسية: تدمير ما يُنير الداخل.
يسرد فيلم “الأشياء التي تقتلها” “The Things You Kill”، نص وإخراج علي رضا خاتمي، حكاية الأستاذ “علي” العائد من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تركيا، وكيف يخسر والدته المريضة، فتبدأ رحلته مع شكّه بتورّط والده بمقتل والدته.. التي هي في جوهرها رحلة نفسية لأعماق الماضي واللاوعي لديه.
يعتمد “خاتمي” الإشارات الرمزية، كأسلوبية إخراجية تمزج ما بين الظاهري والباطني غير المعلن، على سبيل المثال كما في المطاردة التي يجد “علي” نفسه قد أُقحم فيها ضد الشرطة، هي ليست سوى مطاردة أفكاره ومشاعره وحتى ماضيه.
أيضاً فكرة القتل ليست للأشياء الملموسة، بمعنى قتل الأشخاص، إنما تنسحب لتشمل الأشياء غير الملموسة التي نحملها في داخلنا، مثل: الذاكرة، قبح الماضي، الهوية، والأعباء النفسية.
وبالتالي لم يأتِ القتل بمعناه المباشر، بل كان لتلك الأشياء الصغيرة “الهواجس، الخيبات، الذكريات” التي تتسلل ببطء إلى يوميات المرء وتبدأ بإحداث صدوع غير مرئية في علاقته بذاته وبالآخرين.
دون نسيان أن عودة “علي” إلى تركيا ليست عودة إلى الوطن، مقدار ما هي، بحقيقتها، مواجهة غير معلنة مع ذاكرة مهترئة. وكما لو أن “خاتمي” لا يبحث في عمله الأحدث، عمّا حصل بالفعل، بقدر ما يبتغي إثارة ذاك المسكوت عنه من: غياب، إهمال عاطفي، والتباس أبوي.
كل شيء لدى المخرج يُروى بصمت أو بطريقة مواربة.. تدرك تماماً كيف تثير غايتها المخفية دون مباشرة.. ولهذا جاءت الإشارات الرمزية وكأنها تفتح بوابات لتفرعاتٍ في الحكاية الأساسية.. ما جعل بعض النقاد يرى أن هناك شيئاً من التوهان عن فكرة العمل بسبب تشتته في موضوعات فرعية عديدة.. بالإضافة لانكشاف رموز الفيلم وقراءتها بسهولة من قِبل المتلقي ما دفعه ليصبح أقل غموضاً.

مع كل ذلك نجح “الأشياء التي تقتلها” في الغوص بخبايا الذات الإنسانية وعكسَ صراعاتها في مستويات مختلفة.. وهي إحدى أهم نقاط القوة فيه.. ما جعل الكثيرون يصنّفونه ضمن السينما النفسية بأبعاد فلسفية وجودية.
مؤخراً فاز العمل بجائزة الاتحاد الدولية للنقاد ضمن مهرجان القاهرة السينمائي. وسيمثّل كندا في ترشيحات جائزة الأوسكار 2026، مع أنه صوّر في تركيا وقدّم باللغة التركية والمخرج إيراني، أما الإنتاج فمشترك بين “كندا، تركيا، فرنسا، وبولندا”.