ثورة أون لاين :
الجريمة والعقاب للكاتب الروسي فيدور دوستويفسكي من أهم الأعمال الروائية العالمية استطاع مؤلفها المزاوجة بين البناء الفني والبعد الفكري الذي بنى عليه عمله الإبداعي في جدلية الخير والشر التي كانت محور روايته وامتدادها العميق في سيكولوجيا الذات الإنسانية.
يتطرق دوستويفسكي من خلال شخصيات روايته لضحايا الظلم الاجتماعي الناتج عن التحولات الاجتماعية والسياسية وما يشوبه من عذابات وفقر وسقوط الإنسان البسيط ويعكس ذلك صدام الروائي مع الفكر السياسي والاجتماعي السائد آنذاك وتنديده بالواقع الذي تهدر به كرامة الإنسان كما تعكس الرواية نظرة الكاتب للجريمة كوسيلة من وسائل الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي وتجسد تقييم دوستويفسكي للدوافع والجذور الاجتماعية والنفسية للجريمة حيث يعمل على إبراز الأمراض الاجتماعية التي تعيشها مدينة سان بطرسبرغ الروسية التي عاش فيها بطل روايته وأحبها حبا مشوبا بالحزن والأسى على ما تعيشه من تناقضات في المفاهيم والأخلاقيات والسلوك.
تبدو شخصيات الرواية مقسمة إلى مجموعتين تمثلان مواقع اجتماعية متعارضة الأولى تمثل الشعب المضغوط الذي يعاني من الفقر والحاجة والحرمان تتجسد في شخصية كل من بطلي الرواية راسكولنكوف وسونيا والمجموعة الثانية تعود لأصحاب المال الذين يعتقدون أن ثروتهم تعطيهم الحق في الإساءة إلى المحتاجين وتتجسد في شخصية المرابية العجوز التي تمتص دماء الناس والمنحل أخلاقيا المجرم سفيريجالوف الذي سولت له نفسه إيذاء المعوزين والمقهورين بلا رادع.
يصور دوستويفسكي ما يعتمل في نفس المجرم وهو يقدم على الجريمة برسم توصيفي لمشاعره وردود أفعاله كما يرصد المحرك الأول والمحرض الذاتي والخارجي والبيئي المجتمعي لفعل الإجرام حيث يظهر راسكولنكوف بطل روايته وهو شاب يبلغ من العمر ثلاثا وعشرين عاما وطالب جامعي ذو شخصية ازدواجية فهو بارد وغير مبال ومعاد للمجتمع حينا ومحب ودافئ حينا آخر كما أنه مرهف المشاعر وشديد التأثر يميل إلى العزلة والانطواء على الذات ما يزيد في شعور الغربة والوحدة عنده لذا يأخذ طابع الاشمئزاز من الآخرين حتى من أقرب الناس إليه.
ويدور السياق العام للرواية حول قتل الشاب الجامعي الموهوب راسكولنكوف للمرابية العجوز وشقيقتها والدوافع النفسية والأخلاقية والبيئية للجريمة حيث يتتبع دوستويفسكي البواعث الكامنة في اللاوعي والتي دفعت ببطل الرواية للتصرف المغالط للصواب والمخالف للضمير ويأتي ذلك في تناسق بنائي لأجزاء العمل الدرامي ذي المساحات السيكولوجية الموجهة للسلوك الإنساني في مختلف تجلياته.
تتطلب كل شخصية في رواية دوستويفسكي الولوج مع الكاتب إلى خباياها لحل عقدها لتشكيل بوابات للاهتداء إلى فهمها والوصول إلى إجابات منطقية للتساؤلات التي تثيرها تصرفاتها الغريبة وغير المتوقعة وهي ما يميز البناء النفسي لهذه الشخصيات حيث انها لا تندفع لارتكاب الجريمة بشكل مفاجئ بل تكون نتيجة لتصارع قوة الخير والشر في داخلها وبعد تضافر جملة من العوامل الذاتية والخارجية لتعد الجريمة إفراز مجتمع يسعى إلى الفضيلة فيسمو بقيمه ومفاهيمه أو ينحدر فتنهار منظوماته الأخلاقية والاجتماعية.
تعد رواية الجريمة والعقاب من أهم الأعمال الأدبية الروائية التي تناولت الجانب النفسي للإنسان وتوغلت عميقا في اللاوعي وبتراكمات الـ”هو” المكبوتة واختلاجاتها وصراعها مع الضمير الذاتي والجمعي بالإضافة لأعمال أخرى مشهورة كرسائل من باطن الأرض والمعتوه والممسوس والأخوة كرمازوف تلك الأعمال التي جعلته واحدا من أهم الكتاب الروس في العالم.
يذكر أن الجريمة والعقاب رواية من ترجمة نسيم واكيم يازجي وتدقيق الدكتور ممدوح أبو الوي وهي من منشورات دار رسلان للطباعة والنشر والتوزيع وتقع في 775 صفحة من القطع الكبير.
المصدر : سانا