ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم :
لا أستطيع شخصياً أن أثق بالولايات المتحدة الأميركية، ويشاطرني في ذلك الأغلبية العظمى من السوريين إن لم يكن جميعهم. ما يدفعني للقول: لا نَثِق، ربما لأنه ينسحب على أغلبية شعوب العالم، ومن لا يشاطرنا منهم الأمر لا يعارضنا،
بدليل الكمّ الهائل من النتائج التي تتقاطع على حصيلة واحدة أنه لا يمكن الوثوق بالسياسة الأميركية، أو على الأقل هذا ما أنتجته تراكمات التجربة في التعويل على الأميركيين.
في المشهد السوري، كانت التجربة أكثر وضوحاً من سواها، وفي الخبرة الروسية بالتعاطي معها كانت النتائج أشدّ مقدرة على تقديم القرائن والأدلة على استحالة الثقة بالأميركي، وأن التفاهم معه مهما يكن السقف الذي يتحرك من خلاله، ليس له على أرض الواقع ما يحاكيه، بل في أغلب الأحيان ينتهي من حيث بدأ، مع ما يراكمه من تداعيات خطيرة تقود الأوضاع إلى ما هو أسوأ مما كان.
اليوم.. لا تبدو المقاربة مختلفة، وليس من الحكمة في شيء التعويل على الأميركي أو الثقة بوعوده، وإن المصداقية التي كانت تلتحف ببعض الشظايا المهملة من هنا أو هناك باتت أقرب إلى التصحُّر الكلي، ولم يبق منها سوى مشاهد من نتف الغبار التي تذروها رياح التصريحات المتقلبة.. التي تصبح على غير ما تُمسي عليه، بما فيها تلك التفاهمات التي لا تكاد تخرج من نفق التعطيل الأميركي المتعمد، حتى تدخل في متاهة الوعود الغامضة.
«أميركا لا تنسق مع روسيا إلا بما يتعلق بتحليق الطيران» .. رسالة حمّالة أوجه، وقابلة للتأويل بأكثر من اتجاه، وربما أيضاً يُراد لها أن تبقى في حيّز التفسيرات المتناقضة، بحيث تستطيع أن تنسف ما قد يحصل لاحقاً، كما تصلُح لتفنيد الكثير مما قيل سابقاً، والمتاهة مفتوحة على الاستنتاجات المتسرعة، بما فيها لغة التعويل على جولة المحادثات القادمة في جنيف مع روسيا والأمم المتحدة.
على المقلب الآخر كانت روسيا تتبع سياسة النَفَس الطويل، وتتعامل مع معطيات التسويف الأميركي بكثير من التأنّي، ومع استفزازاتها التي تسبق كل لقاء، ومع الالتواءات التي تلحق به، وبالصيغة ذاتها، حيث ما يقال في الغرف المغلقة وعلى الطاولات هو غيره الذي ينطلق بعدها على المنابر الإعلامية، وما تتفق عليه البيانات المشتركة يختلف إلى حدّ الإلغاء مع «المنفردة»، أو تلك التي تجمع الأميركي بحلفائه أو أدواته.
هذه الحلقة المفقودة من سباق التتابع الأميركي في التملُّص من الالتزامات تكفي منطقياً للاستنتاج القطعي بغياب المصداقية الأميركية، وبالتالي أن يصل نفاد الصبر الروسي إلى محطته النهائية، لكن ما نلمسه عملياً أن العودة إلى لغة التنسيق والحديث عن تفاهمات سابقة أو لاحقة يبقى يتصيّد في الماء الأميركي العكر، ويظل حاضراً في سياق المقاربة السياسية التي تحاول أن تبيع الوقت حتى إشعار آخر.. رغم اليقين السياسي بأن ما قد تعطيه الإدارة الأميركية الحالية في أشهرها المتبقية يظل «شيكاً» من الوعود التي لا رصيد لها، ولا طائل من الظلال الكثيفة التي قد تُبرر بعض التمنيات.
المواظبة الروسية على انتزاع موقف أميركي أو خطوات حقيقية سواء كان في السياسة أم على الأرض، قد يكون لها ما يبررها، وربما تمتلك رصيداً افتراضياً، رغم ما يحتويه هذا الرصيد من شوائب عائمة على سطح الظواهر الدالة عليه، وقد تستطيع روسيا أن تحاجج في هذا الأمر ببعض الأدلة، لكن في معيار السياسة وفي خطوات مكافحة الإرهاب يبدو التباين حاداً إلى درجة جليّة وبيّنة في كل التفاصيل كما هو في العناوين.
عند هذه النقطة يعود النبش الفعلي إلى استحضار مقولات تتصدَّر المشهد العملي، وتضع نقاطاً واضحة على حروف سياسية تتم المجاهرة بها وعليها، وفي مقدمتها أن أميركا رغم التشظّي إلى حدّ التلاشي لمعارضتها الكاذبة واعتدالها الأجوف، ليست ولن تكون جادة في مكافحة الإرهاب، والخيبة الروسية من ذلك لا تحتاج إلى مظهر سياسي، فجميع رتوش الدبلوماسية لن تتمكن من إخفاء ما بان منها وما انكشف، حتى لو تمنّعت روسيا عن المجاهرة بها، أو اضطرت في بعض الأحيان للمداورة عليها فينطق بها اللسان الروسي بحكم الأمر الواقع .
لا نثق بأميركا .. ولا يمكن الوثوق بها، وآن الأوان كي نضع نقطة نهائية ونبدأ من أول السطر، في مواجهة جادّة وحقيقية للإرهاب بمن فيه إرهابيوها.. اعتدلوا أم تطرّفوا، فالاعتدال – كما وعودها وتفاهماتها- «فانتازيا» أميركية، تمارسها قولاً وفعلاً عبر سياسة نفاق تتاجر بالكلمات والمصطلحات، وتبازر على سيادة الدول وشرعيتها ووجودها.
a.ka667@yahoo.com