ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
نستطيع أن نتفهم أسباب ودوافع المقاربة الغربية الرسمية الجائرة تجاه المنطقة، بحكم تجربة طويلة تمتد لقرون، مارست خلالها السياسة الأوروبية عدوانيتها تجاه المنطقة، عبر محاكاة منتظمة لأطماعها التي لم تستطع أن تخرج عن أحكامها ومقتضياتها،
رغم ما أشيع وما قد يشاع عن أفول الأطماع الغربية أو تلاشي دورها الاستعماري بصيغته التقليدية، والذي تجدده في نسخة تبدو أكثر بشاعة في الشكل والمضمون، وإن كانت تحاكي المنهج ذاته.
ونستطيع أيضا أن نعثر على ما يسوغ للإعلام الغربي تلك النظرة القاصرة تجاه الأحداث في المنطقة، وأحياناً المتعمدة في تشويه حقائقها باعتباره جزءاً من منظومة الأطماع تلك، لكن كان من الصعب والعسير أن نجد ما يبرر أفعال النخب الغربية عموماً، وسياقات ما تنتجه من جور واضح في المقاربة وفي النظرة إلى مجريات الأحداث في المنطقة، وتحديداً حين يتعلق الأمر بالتطرف والإرهاب، وأحياناً نرى استعصاء سياسياً في تحديد الفارق بين السياسات الرسمية وسلوك العديد من المؤسسات الغربية ذات الطابع النخبوي وأحياناً الشعبي، ولم نجد في كثير من الأحيان ما تصح عليه تسمية «تمايز» بين موقف الحكومات المعلن وبين نظرة الكثير من شخصيات السياسة العامة الغربية، وهو ما ينسحب على مجمل المشاهد المتكررة، التي كانت تعيد إنتاج المأزق ذاته.
لا أحد ينكر أن ثمة مسافات فاصلة بين معطيات المشهد السياسي والمقاربات التي يضخها الإعلام الغربي، ولا أحد يتجاهل حجم الفجوة القائمة في سياق التجربة التي حكمت العلاقة لعقود خلت، حين كانت النظرة التشاؤمية هي السائدة، وساهمت إلى حد بعيد في تورم المشهد باعتبار أن الغرب عموماً فوّض نفسه من دون سواه متنفذاً وحيداً في المشهد العالمي، ونصّب سياقاته الخاصة لاحتكار المعرفة واستنزافها في الهيمنة من دون أن يخوض نقاشاً فعلياً يقوم على دراسة خلاصة التجارب المستنسخة من الرحم ذاته.
الأخطر كان التعميم الذي وصل في بعض مراحله إلى الجزم بالتشابه الحاصل في مختلف المقاربات السياسية، سواء تلك الناتجة عن مواقف حكومية وسياسات رسمية معتمدة، أم تلك التي قدمتها القنوات الرديفة أو الفرعية، وصولاً إلى النخب الغربية، بما تعنيه من حصيلة مشوهة لنتائج مغلوطة أيضاً، بحكم القراءة المقلوبة لها، وهذا ما حمّل المشهد المزيد من التورم، وصنع متاريس وحواجز كان من الصعب اختراقها، وأدت في نهاية المطاف إلى القطيعة الحاصلة في التواصل من جهة، ونزوع معظمها إلى تبني الرؤية المشوهة التي زادها الإعلام الملحق تشويهاً، وأضاف تفاصيل عمقت من الشرخ الحاصل من جهة ثانية.
عند هذه العناوين بتفاصيلها المختلفة كان التباين يضيق إلى حدوده القصوى، وبتنا نلمس غياباً غير مبرر لدور المؤسسات الناظمة للبنى الاجتماعية، وخروجاً شبه كلي لملحقاتها المجتمعية والبحثية، فغاب الدور أو كاد، وانحسر التأثير، بل أصبح الموقف متطابقاً وأحياناً سابقاً للموقف الرسمي في عدائيته ويحمل المغالطات ذاتها والأخطاء نفسها، والأخطر من ذلك أنه كان حافزاً ودافعاً في بعض جوانبه للموقف الرسمي ليزيد من مستويات استباحته بما يقدمه من مسوغات للعداء والاستعداء، فقد عانت المقاربات الغربية بتعدد مستوياتها إشكالات واضحة في سياق تعاطيها مع التطورات، وأفضت في أغلب الأحيان إلى تسطير مجموعة لا متناهية من الأخطاء المسكوت عنها، ولم نعد نجد ما يفرّق بين الرسمي وغير الرسمي، وفقد الدور الشعبي كما النخبوي تأثيره، حاله في ذلك حال مؤسساته.
والأزمة في سورية وطريقة محاكاتها كانت جزءاً من المعضلة، التي استفحل فيها الفارق، وشهدنا ما يدعو إلى العجب، بل لمسنا مجموعة من الأحجيات والألغاز في فهم أسباب ودوافع مواقف النخب، التي كانت مطواعة في مقاربتها لأكاذيب الموقف الرسمي وذرائعه الواهية، حتى فيما يخص المعايير الغربية للديمقراطية والحرية واحترام القوانين وسيادة الدول، التي بات شرعنة انتهاكها مسموعاً على لسان النخب أكثر مما هو مصرح به من قبل الحكومات الغربية، وبتنا نرى مسوغات المعايير المزدوجة في مقاربة الموقف من دول موغلة في ظلاميتها ومنتجة للإرهاب على أنها تصلح للشراكات مع الغرب، وتحولت أغلب الأصوات إلى بوق يروِّج للصفقات المشبوهة مع تلك الأنظمة.
والأدهى كان التعاطي مع الخلفية الإرهابية ونماذجها المسوَّقة داخل السياقات الرسمية الغربية، التي شكلت في بعدها السياسي واحدة من أكثر المعضلات صعوبة في الفهم، والتي لا تزال تشكل فرقاً واضحاً في الدور والمشهد داخل أروقة القرار الغربي، لكن هذا التعاطي يضيف إلى الحقائق المغيبة بنداً نوعياً يتعلق بالعلاقة مع الإرهاب والتعويل السياسي الغربي عليه، والموقف المشلول للقوى المجتمعية الغربية حياله.
ببساطة شديدة نستطيع أن نجزم بأن حيز الفارق الذي يتلاشى يؤشر إلى حقائق مسكوت عنها تحت بند التخلي عن الدور، وإلى معطيات ووقائع يتم التستر عليها تحت شعار المسؤولية السياسية والاجتماعية، التي تحولت في نهاية المطاف إلى أكذوبة تمر من خلفها ومن تحتها موبقات السياسة الغربية، والمؤسف فعلاً أن الكثير من النخب الغربية كانت جزءاً لا ينفصل عن منظومة الكذب تلك، وشريكاً حقيقياً في كل ما تعانيه المنطقة، وكل ما شهدته أحداثها من تقلبات.
a.ka667@yahoo.com