ثورة أون لاين:
في روايتها "بائعة الكلمات" تطلق الكاتبة السورية ريمة راعي دعوة نبيلة لقبول الآخر، بغض النظر عن اسمه وشكله وهويته، دعوة لنشر التسامح بدلًا من الكراهية، "أن نجعل هذا العالم أقل فوضى ووحشية بما نملكه من نداوة الحب وفطرته".
أطلت علينا الكاتبة ريمة راعي في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2018 بروايتها الجديدة "بائعة الكلمات" عن دار "المكتبة العربية للنشر والتوزيع" وهو العمل الرابع لها بعد "وأخيراً ابتسم العالم" مجموعة قصصية، و"القمر لا يكتمل" مجموعة قصصية تمت ترجمتها إلى اللغة الألمانية، ورواية "أحضان مالحة" عن دار بيسان للنشر والتوزيع.
لغة الكاتبة جميلة وسلسة، وتنساب عباراتها برقة عبر صفحات الرواية، بتشبيهاتٍ جماليةٍ بديعة مثل وصفها للسير في طرقات القرية وقت المغيب بـ"نزهة في قارب وردي اللون في نهر عذب غير مرئي إلا لمن ينظر بقلبه أو يتقن الزقزقة". فتحيل الرواية إلى لوحةٍ سرديةٍ بالغة العذوبة، لا يستطيع القارئ أن يتركها من يده إلا بعد أن يصل إلى خاتمتها.
"اسمي أفروديت" هكذا تفتتح الكاتبة روايتها، وأفروديت هي ربة الجمال الإغريقية، لكن أحداث الرواية تتناول حياة فتاة ولدت لعائلة قروية فقيرة، أطلقت عليها أمها هذا الاسم لأنه كان اسم سيدة فرنسية من النبلاء في قريتها في فترة الاحتلال الفرنسي، فأرادت بإطلاق هذا الاسم على ابنتها أن تنال بعضًا من حظ وجمال هذه السيدة الجميلة النبيلة؛ ولكن الفتاة النحيلة، السمراء في مجتمع يقيس الجمال ببياض البشرة، ذات الشعر الخشن العصي على التمشيط، لا تنال بسبب اسمها سوى سخرية أقرانها، وتنمر زملائها عليها في المدرسة، فأطلقوا عليها لقب "إلهة الجمال القبيحة"، إنها تعاني بسبب شيء لم تختره، شيء وسمت به حين مولدها وهو اسمها، و شيء كامن في جيناتها من قبل مولدها وهو "ملامحها ولون بشرتها".
وهنا نضع يدنا على قضية هامة وخطيرة تتناولها الكاتبة من خلال روايتها "بائعة الكلمات"، وهي الحكم على البشر من خلال أشياء لم يختاروها، كأسمائهم وأشكالهم وأمراضهم، مثل البطلة "أفروديت" واسمها الغريب على مسامع الناس، وملامحها القبيحة في نظرهم، وأخيها "فتحي" الذي يعاني من صعوبة في التعلّم، مما حرمه من التعليم الطبيعي، وليكون ذلك بعدها مفتاحًا لظهور شخصية جديدة في حبكة الرواية وهو الأستاذ "سعد"، والذي يمثل النموذج المثالي لما يجب أن يكون عليه المرء. فهو شخص، رغم وسامته وثراءه وعلمه، إلا أنه ودود لطيف المعشر مع غيره من سكان القرية، فيتولى مسؤولية تعليم فتحي، ويكون السبب في حب أفروديت للكتب التي ستلعب دورًا هامًا في حياتها فيما بعد.
تتحول "أفروديت" على يد الأستاذ سعد إلى "بائعة كلمات" من خلال الكتب التي تعلمت منها الكثير، فتسطو على تعبيراتها ومفرداتها وتضيفها إلى قاموسها، وتستخدمها في مواضيع التعبير مما يجعلها موضع إعجاب عند مدرسها، وموضوع انبهار عند أقرانها، وتبدأ مع الوقت في مساعدة رفيقاتها في كتابة مواضيعهم الدراسية الخاصة، أو حتى رسائل الحب الحارقة، وكل شيءٍ بثمنه، ولكنها كانت تدخر هذا الثمن لحلمٍ جميل، وهو بناء مكتبتها الخاصة مثل تلك التي لدى الأستاذ سعد.
ثورة على الواقع
شخصيات الرواية ديناميكية حية، فهي تتطور وتتغير حسب تأثرها بالأحداث، وهذه براعة من الكاتبة التي استطاعت بث الحياة في شخصيات عملها، فنرى كيف تشكلت شخصية "أفروديت" وكيف تحولت من شخصية سلبية مستسلمة للأمر الواقع، إلى شخصية ثائرة ومتمردة على واقعها لا ترغب في الاستسلام له، ويظهر تمردها في مواقف بسيطة، مثل إلقاء قطعة من لحم النذور إلى كلب بلدي هزيل، فتقول الكاتبة على لسان البطلة ص39: "كنت أعلم أن طعام النذر هذا محرم عليه، فمن عادات أهالي القرى أنهم لا يطعمون من نذورهم إلا ذوي السمعة الحسنة والخلق الطيب. وحتمًا لا يمكن اعتبار الكلب من ضمن المؤهلين لتناول لحم الخروف…". فهي ثائرة في وجه المجتمع وأفكاره البالية التي لا ترحم الضعفاء والمختلفين.
كما لا تفوت الكاتبة المناسبة لذكر مشهد آخر من مشاهد التمييز ضد الضعفاء المغلوبين على أمرهم فتقول على لسان البطلة ص39: "بل أني أذكر أن امرأة مطلقة تتناولها الألسن في القرية منذ طلاقها، جاءت يومًا لتقدم المساعدة لأم محمد في طبخ نذرها، لكن أم محمد ادعت عدم الحاجة إلى المساعدة، وهمست في أذن أمي إنها تخاف من عدم قبول النذر بسبب تدخل يد تلك المرأة". فالمجتمع يسلّط لسانه الذي لا يرحم على تلك المرأة لسبب بسيط وهو كونها مطلقة، وهو ما نراه كثيرًا في مجتمعاتنا الشرقية، وتعاني منه الكثير من النساء بلا ذنب سوى كونهم مطلقات.
نرى ثورة الطفلة الصغيرة "أفروديت" أيضًا على حكايات الأطفال التي تتحدث عن الأميرات الجميلات، ينقذهن دومًا فارس وسيم، وتنتهي بالزواج السعيد بينما تنهال عليهما الأزهار، تقول أفروديت ص35: "كان قدر جميع الفتيات في تلك القصص أن يكن أميرات، ويكافئن على كونهن طيبات وحانيات وجميلات. ورغم انبهاري بذلك المصير المذهل، إلا أنني كنت أفكر بامتعاض بالنهايات الممكنة لحكاية فتاة ليست شقراء الشعر وخصرها ليس نحيلًا ولا تملك أنفًا دقيقًا وعينين زرقاوين."
تشعر أفروديت أن تلك الحكايات قد أقصتها جانبًا، ويكون هذا الاكتشاف هو السبب في انتقالها من قراءة قصص الأطفال ذات الأغلفة الملونة الزاهية إلى قصص الكبار الضخمة وأغلفتها السميكة. كأن هذه هي إشارة رمزية من الكاتبة على نضج أفروديت، وبداية طور جديد في حياتها، وحتى اختيار الكاتبة لأول كتاب تقرأه أفروديت في هذا الطور هو تعزيز لفكرتها، فتعود أفروديت إلى بيتها تحمل كتابًا ضخمًا يحمل عنوانًا غير جذاب: "البؤساء" للأديب الفرنسي الشهير فيكتور هيغو. فهذا الكتاب يتناول شخصية "جان فالجان" السارق الذي يبادر الجميع بسوء التصرف بسبب توقعه سوء المعاملة من الآخرين، وكيف استطاع الأسقف الطيب تغيير شخصية فالجان بالعطف والحب، وكيف لقوة التسامح أن تغيّر هوية الإنسان.
الكراهية مفتاح كل شر
تقفز الكاتبة بأحداث الرواية في الفصل الثاني قفزة زمنية كبيرة، عندما نرى "أفروديت" وهي امرأة ناضجة، مصابة بمرض السرطان وتتلقى جلسات العلاج الكيمائي، ترتدي شعراً مستعاراً لكي تخفي رأسها الخالية من الشعر عن أعين الناس، محاولة أخرى للهرب من حكم الناس علينا بسب شيء لا نقدر على تغييره، ولا يد لنا فيه. ولكنها تعود في الفصول التالية إلى أفروديت الصغيرة، فتنقتل في الفصول بين الماضي والمستقبل كأننا نجمع معها قطع الأحجية لنستطيع رؤية الصورة كاملة. هناك أيضًا تلك الاقتباسات التي تضعها الكاتبة في صدر كل فصل، وهي ليست مجرد اقتباسات عشوائية بل القارئ المتمعن يدرك من الاقتباس مغزى الكاتبة من الفصل، كأنها تبث رسائلًا خفية.
وهكذا نعرف أن "أفروديت" قد تزوجت وأنجبت ابناً مصاباً بمرض "التوحد" ونرى أثر مرضه عليها وعلى المحيطين به، نرى معاناة ابنها من النبذ والكراهية بسبب مرضه هذا، فلا تجد "أفروديت" العزاء والمواساة سوى في مؤتمرات ومحاضرات التوعية باضطراب التوحد. ولكن حتى هذه المحاضرات هي مجرد مسكنات مؤقتة نضعها فوق جروحٍ لا تندمل، فتقول "أفروديت" ص62: "كنا نعلم جميعًا أننا حين نغادر قاعة المحاضرات، ونخرج إلى الشارع، سنغرق مجددًا في وحل العالم الواقعي، الذي لا مكان فيه للضعفاء، ولا لمفرداتنا المبتكرة التي نحاول من خلالها تجميل عالم أطفالنا، حين نستبدل كلمة معاق بكلمة مختلف، ومقعد بذي احتياجٍ خاص، وكلمة منغولي بطفل داون، ونقول متوحد عوضًا عن مختل عقليًا أو مجنون."
ولكن "أفروديت" تفقد ابنها "المتوحد" برصاصٍ طائش في مشهدٍ مؤلم، وهذا هو الملمح الثاني لرواية "بائعة الكلمات" وهو تأثر الكاتبة بالأحداث السورية المعاصرة؛ هؤلاء الكُتّاب الذين يعايشون معاناة الحرب السورية المستمرة منذ سبع سنوات، تنضح كلماتهم وحروفهم بمآسي الحرب، وخاصةً الكُتّاب الشباب الذين يخوضون غمار الكتابة في تلك الظروف القاسية، فتولد إبداعاتهم من رحم تلك المعاناة. البطلة لا تفقد ابنها وحده برصاص الحرب، بل تفقد أمها وأباها أيضًا، وتصحبنا الكاتبة عبر مشاهد مفجعة للدماء المسفوحة، والجثث الخالية من الحياة، والمقابر الجماعية.
جسدت الكاتبة غضبها من الواقع، ونقمتها على الحرب متشعبة الأطراف، وهي تأكيد لفكرتها الرئيسية أن كراهية الآخر هي مفتاح كل شر، فمشكلة التنمر التي عانت منها أفروديت في طفولتها، هي ما تعانيه بعض الدول الضعيفة على يد الدول الأقوى، بل أن مشكلة المتطرفين الكبرى هي عدم قبول الآخر، ووضع سيف التكفير على رقاب كل من يختلف معهم.
وعن الحرب السورية تقول الكاتبة على لسان أفروديت ص16: "الجميع في هذه البلاد إما موتى أو ينتظرون موتهم، ففي نهاية المطاف، الموت وزع مصائده في كل مكان، وجلس ينتظر."
بائعة الكلمات وجمال الروح
لا تقف الكاتبة عند الواقع المؤلم والنماذج السلبية، بل تقدم في رسالتها النبيلة النماذج الإيجابية، رغبةً منها في طرح الحل، وهو التعايش وقبول الآخر كما هو، دعوة لنبذ الحكم على الآخرين بما لا يملكون هم تغييره، لون بشرتهم أو طول قامتهم، بل النظر إلى أفعالهم وقبولهم؛ فوالد "أفروديت" تربطه صداقة قوية بوالد الأستاذ سعد برغم الفوارق الاجتماعية والثقافية بينهما، وهناك الأستاذ سعد نفسه المهذب الشهم حسن الخلق، حتى لتشعر أفروديت ـ التي لم ترَ في حياتها إلا التنمر وسوء المعاملة ـ بأن هذا الرجل قادم من كوكبٍ آخر. وكذلك حب "أفروديت" للكتب والكتابة، وموهبتها في صياغة الكلمات التي أكسبتها إعجاب واحترام المحيطين بها، وكأن الكاتبة تقول إن الله يهبنا نعماً بأشكالٍ ودرجات مختلفة، وأننا بدلاً من النظر إلى ما ينقصنا، يجب علينا أن ننظر إلى ما نملك، مثل "أفروديت" التي لم تنل الجمال، ولكنا نالت عذوبة الكلمات. وألا نكتفي بالنظر إلى أنفسنا لتقديرها أيضًا، بل ننظر إلى الآخرين لرؤية مواطن الجمال فيهم، لا جمال الظاهر فقط، ولكن جمال الروح والمشاعر والأخلاق أيضًا، أو كما قال الأستاذ سعد ص34: "أن نرى بقلوبنا ما لا يراه الآخرون بعيونهم".
رسالة الكاتبة النبيلة أن نجعل العالم مكانًا أجمل بالنسبة لشخصٍ آخر على الأقل، كما فعل الأسقف مع جان فالجان، وكما فعل الأستاذ سعد مع أفروديت.