بينوكيو «كارلو كولّودي» إيماءات كل أرواح العالم

بأسلوب سلس ورشيق كتب كارلو كولودي رواية «بينوكيو»، حتى لتشعر نفسك بعد قراءة الصفحات الأولى أنك تركض مع الدمية «بينوكيو» في مغامراته، وتتلمس أنفك إن زاد طوله بعد كذبة تفوهت بها. تبدأ المغامرات من لحظة تشكل الدمية بينوكيو وحتى بلوغه سن الرشد وتحوله إلى ولد قويم، وهي النقطة التي تنتهي عندها الرواية، وما بين البداية والنهاية يخوض بينوكيو مغامرات كثيرة وخطيرة.
نرمق في هذه الرواية عالم الكبار من نافذة طفل أو «دمية» تريد أن تصبح إنساناً كاملاً من لحم ودم. لتنطلق بعدها الأسئلة الكبيرة في عالم الصغار والكبار: هل جرّبت أن تكون مجرّد دمية؟ وهل أنت متأكّد أنّك لست دمية؟ أم أننا جميعنا دمى بطريقة أو بأخرى؟ قد يكون في داخل كل منا دمية مُشبعة بالخير أو بالشر، شكلها المرء بغير وعي وعلى غفلة منه أفلتت من سيطرته، وهذا ما حدث لجيبيتّو والد بينوكيو بالتبني.

لماذا لم يكتب الكاتب شخصيته على أنه طفل حقيقي يعيش مغامرات بدل أن يكون دمية خشبية ويتطلع لأن يصبح ولداً حقيقياً؟
بينوكيو شخصية ملهمة ومؤثرة تُشعل المخيلة، وربما بينوكيو نفسه هو من ألهم كولودي بإعادة صياغة الخاتمة عندما طلبت منه المجلة ذلك، نزولاً عند رغبة القرّاء الصغار كما يذكر المترجم في مقدمته للكتاب، حيث أن كولودي أنهى قصة بينوكيو بموته، إلاّ أن الاعتراضات الكبيرة على هذه النهاية المخيبة لآمال القرّاء الصغار دفعت المجلة لإقناع كولودي بتغيير هذه النهاية، الأمر الذي استغرق عامين من كولودي ليصل إلى الخاتمة التقليدية التي نعرفها اليوم. وصل عدد الترجمات إلى 240 لغة بحسب اليونيسكو، وتطرّق العديد من الكتّاب والنقّاد في إيطاليا لتناول أبعاد هذه الرواية ومن بينهم أمبرتو إيكو.
اللافت أن مجمل مغامرات بينوكيو الطائشة كانت هرباً من المدرسة والدراسة كما أن ذكر الدين معدوم في الرواية كعنصر مهم يستند إليه معظم الكتّاب عندما يتطرقون لمواضيع كالتشرد والجوع والتعرض للموت، فإن الدين يكون ملاذاً في هذه الأوقات، إلاّ أن كولودي يغيّب الدين تماماً في هذه الرواية، وقد يكون السبب أن كولودي واسمه الحقيقي «كارول لورينزيني» الذي ولد في فلورنسا عام 1826 وتوفي في المكان نفسه عام 1890، درس في المدارس الدينية إلى سن السابعة عشرة من عمره، وقد قام صاحب المنزل الذي كان يعمل لديه والدا كولودي بدفع تكاليف إتمام دراسته على أن يصبح قسيساً، إلاّ أن هذا لم يتحقق، لأن كولودي كوّن لنفسه ثقافة أدبية وموسيقية وأصبح صحفياً ليبرالياً في النهاية.
لقد أنتجت وولت ديزني عام 1940 فيلماً عن بينوكيو يختلف في بعض تفاصيله عن الرواية الأصلية، فتبدو البلدة التي تجري فيها أحداث الفيلم وكأنها إحدى المدن السويسرية وليست بلدة إيطالية فقيرة، ويظهر جيبيتو والد بينوكيو بالتبني على أنه صانع ألعاب ميسور، إلاّ أنه في الرواية الأصلية ليس سوى نحّات خشب فقير. كما يظهر الفيلم بينوكيو على أنه دمية خشبية جامدة ولا توهب لها الحياة إلاّ عندما تحقق الحورية لجيبيتو أمنيته في تبني طفل، وفي الرواية بينوكيو ولد حياً منذ البداية يتكلم ويصرخ ويركض منذ اللحظة الأولى لتشكيل،ه عندما أهدى الماستر أنطونيو الذي كان يدعى المعلم كرَزة، قطعة الخشب لصديقه جيبيتو الذي بدوره كان يلقب بـ «بولندينا» بسبب باروكته الصفراء، وكان هذا اللقب يزعجه جداً. كما أن مغامراته مليئة بالتمرد والمجازفة، وتظهر الحورية في فصول الرواية لتنقذ بينوكيو من ورطاته.
تظهر شخصيات عديدة وممتعة بأشكال الحيوانات، فنرى الجدجد الناطق على أنه الضمير الذي يعظ بينوكيو ويوبخه أحياناً، إلاّ أن بينوكيو لا يستمع إليه ويقع في المخاطر، ورطة تلو الأخرى. ويظهر الثعلب والقط في أدوار شريرة حيث يحاولان سرقة الليرات الذهبية من بينوكيو ومن ثم قتله.
إنه صراع الخير والشر الأزلي في النفس الإنسانية، فشخصية بينوكيو المكتوبة أصلاً للأطفال تتعرض لمغريات الحياة من لعب ولهو وتسلية لتحيده عن الطريق القويم الذي يجب أن يسلكه أي طفل من ذهاب إلى المدرسة واحترام رأي والده، فالفكرة التي أراد الكاتب إيصالها أن بينوكيو سيظل دمية ما لم يُطع والده والحورية في اتباعه القواعد السلوكية السليمة وألاّ ينجر خلف أهوائه. وهنا نحن أمام سؤالين: هل شخصية بينوكيو بتمردها وجموحها موجودة في داخل كل منا؟ هل نحن جميعاً دمى أم نملك حرية الاختيار؟ وهل فكّر الإنسان يوماً أن كل شيء حوله لديه مشاعر ومنهج يسلكه؟ الخشب مثلاً؛ هل يتألم عند تحويله إلى طاولة أو إلى سرير نرمي ثقلنا عليه؟ كما قال روبرتو بينيني عن الرواية: «بينوكيو يمكن أن يعاش كما نرغب، ككابوس، حلم، عاصفة، بطيخة، الحياة، الموت، كلها ملائمة لأنه أسطورة. بينوكيو شخصية ساحرة، مذهلة، مليئة بالنشاط والحيوية والخيال، بالشاعرية والشناعة أيضاً. إنها تحتوي على حياة كل الكائنات الحية، وعلى إيماءات كل أرواح العالم».

نور طلال نصرة

آخر الأخبار
تعيينات في " الخارجية " تعزز مشاركة المرأة   بصنع القرار  " الشؤون الاجتماعية" تدعو الأطفال السوريين للمشاركة  بمسابقة البرلمان العربي   "عبدي" يكشف تفاصيل دمج "قسد" في المؤسسة العسكرية السورية  سوريا تشارك في الجلسة المستأنفة للدورة الثانية لجمعية الأمم المتحدة  أزمة السكن وارتفاع الإيجارات تجهض أحلام العودة للوطن  وزير الإعلام: تجاوزنا مرحلة بناء الثقة وندخل مرحلة جديدة قبوات لـ"أسوشيتد برس": رفع العقوبات بداية لمرحلة التنفيذ ومحاربة الفساد  وزير الدفاع: لوائح انضباط جديدة لترسيخ جيش وطني يحمي الشعب 200 منشأة حرفية لمواد البناء في حماة تدخل سوق العمل 12 سيارة إطفاء مع تجهيزاتها لمواجهة الحرائق بالغاب دعم مركز نقل الدم بحماة بالطاقة الشمسية حماس الأتراك لدعم الإعمار في بيلديكس 2025 آمال بتسهيلات مالية وبنكية أصحاب شركات يعودون لإعمار وطنهم صحف عبرية: رفع العلم الأمريكي في دمشق "رسالة قاسية لإسرائيل سوريا ترحب بقرار الحكومة اليابانية برفع العقوبات عن أربعة مصارف وطينة اتفاقيات الكهرباء تنقل سوريا إلى النور.. خبراء لـ"الثورة": ثمرة من الانفتاح الدولي وصمام أمان معيشة ... ترميم مركز الدفاع المدني في بصرى الشام تنفيذ أعمال صيانة وإصلاح لشبكات المياه بالقنيطرة بيئة مدرسية محفزة لمستقبل أجيالنا.. تأهيل ثلاث مدارس في القنيطرة بمشاركة محافظَي اللاذقية وإدلب.. تدشين دار رعاية المرضى في ولاية أكسراي التركية